الخميس 2 أكتوبر 2025 الموافق لـ 9 ربيع الثاني 1447
Accueil Top Pub

يصنع آلات موسيقية قديمة في قلب مدينة قسنطينة: عادل بن شطـرة.. حـارس الذاكرة الموسيقيــة


في زقاق ضيق بالمدينة القديمة، حيث تتعانق روائح الطين العتيق مع أصداء الخطى على الأرصفة المتآكلة، ينبض مكانٌ صغير بالحياة. هو محلّ متواضع لا تشي واجهته بما يتخفى داخله، فما إن تلج بابه الخشبي المتهالك حتى تجد نفسك في حضرة عالمٍ تحكمه الأصوات والأنغام، وتُصنع فيه الموسيقى كما كانت تُصنع قبل عقود.

يجلس عادل بن شطرة في المكان، وهو رجل تجاوز الستين من عمره، يتمتع بملامح هادئة ويدين خبيرتين تحملان آثار العقود الثلاثة التي قضاها في مهنته صناعة الآلات الموسيقية التقليدية وصيانتها.
يقول :«هذه ليست مجرد مهنة إنها رسالة أيضا». يحكي عادل كيف بدأت قصته من بوابة الفضول حين كان طفلا صغيرا يتردد يوميًا على محل قديم لحرفي تونسي يجلس بين الأدوات والأخشاب والجلود ليصنع آلات تصدر أنغامًا ساحرة.
يستعيد عادل ذكرياته معلقا :« لم أكن أعمل لحسابه بل كنت أراقبه لساعات وساعات لكي أتعلم من خلال تأمل كل حركاته، وكيف ينفخ في النار، ويشد الجلد، ويُجرّب الصوت بإصبع واحدة».
هكذا بدأت الرحلة

أخبرنا، أنه بدأ في اكتساب المهارة مع مرور الوقت حيث تعلم أصول العمل وأسراره وكثيرا من الحيل التي تسهل العمل، وقرر أن يخوض التجربة بنفسه وأن يصنع آلات تحمل توقيعه، فكانت البداية بآلة البندير الإيقاعية التي لا غنى عنها في موسيقى المغرب العربي. يشرح عادل تفاصيل الحرفة بنبرة من يعرف كل أسرارها قائلا :«البندير يختلف باختلاف الحجم والمادة الأولية، وهي عوامل تؤثر بشكل مباشر على طبيعة الصوت أو النغمة التي يصدرها ولذلك فإن كل فنان يختار البندير الذي يتناسب والطابع الموسيقي الذي يؤديه».
يواصل حديثه:« نجد البندير الكبير مثلا في موسيقى فرق الخوان في قسنطينة، أما النوع الأصغر حجما فغالبًا ما يُستعمل في فن الفقيرات.» موضحا أن الجلد المستخدم والتوتر المطلوب، وحتى طريقة ربطه كلها تفاصيل دقيقة لا يعرفها إلا من احترف صنع الآلة ودرس خصوصياتها .
الدربوكة... طين ونار ونغمة جميلة

ينتقل الحرفي للحديث عن «الدربوكة»، وهي آلة لا تقل شهرة عن البندير حسبه، لكنها تُصنع عنده بأسلوب خاص ورثه عن معلمه الحرفي التونسي، حيث يقول بهذا الخصوص « نصنع الهيكل من الطين، نخبزه ونبرشه جيدا ثم نصبغه بعد ذلك نضع جلد الماعز في الماء حتى يلين، ونشده على الفخار بحبات الحمص، نخيط الجلد بدقة ونتركه يجف و بعد أيام تولد الدربوكة.»
وليست جميع الآلات متشابهة، فهناك الدربوكة المصنوعة من الفخار، التي تُستخدم غالبًا في موسيقى المالوف، وأخرى من النحاس تُستعمل في الأنماط الشعبية، فكل واحدة لها روحها وصوتها الذي لا يشبه غيره كما يقول عادل.
الطار والناغرات حوار الجلود والمعادن
الحديث عن الآلات طويل ومتشعب حسب تعبير الحرفي فلكل آلة في محله حكاية، ولكل تفصيل معنى «فالطار» مثلا آلة إيقاعية صغيرة الحجم لكنها غنية بالتعابير، «في المالوف يكون الطار صغيرًا بقطر حوالي 20 سم، أما طار الفقيرات فيصل القطر إلى 24 سم، ونستخدم دائمًا جلد الماعز لأنه يتحمّل طويلا ويعطي صوتًا واضحًا.»
ومن بين الآلات التي توجد في محل عادل كذلك «الناغرات» وهي آلة شبه منسية لا يعرفها إلا القليلون، لكن محدثنا يعيد إليها الحياة، ويقول بهذا الخصوص :« نصنعها من النحاس الأحمر ونغطيها بجلد الجمل، ومنها نوعان واحد يُستخدم في المالوف، وآخر خاص بالخوان، وهي آلة صوتها عميق فيه نوع من الحنين».
الناي والزرنة و أنفاس الخشب
انتقل بنا الحديث مع عادل إلى آلات النفخ، حيث يحجز الخشب مكانا هاما في محله، يقول محدثنا :« نصنع الناي والزرنة من خشب اللوز أو الجوز حسب الطلب، فخشب اللوز يعطي صوتًا دافئًا أما الجوز فصوته حادّ قليلًا، وكل آلة تختلف عن الثانية حتى لو صُنعت من نفس القطعة.»
وأوضح الحرفي، أن القياسات والثقوب وحتى طريقة الحفر كلها تؤثر على النغمة، وكل نغمة تُحاكي وجعًا أو فرحًا في ذاكرة هذا الشعب.
القيثارات الحديثة عندما يتقاطع القديم مع الجديد
ولا تتوقف مهارة عادل عند صناعة الآلات التقليدية فقط، بل أصبح مرجعًا في صيانة القيثارات الحديثة أيضًا، يعبر عن الأمر قائلا :« يحضر لي البعض القيثارات لأغير أسلاكها أو لإصلاح الهيكل وضبط النغمة، والأسلاك في القيثارة أنواع هناك ثلاثة من البلاستيك وثلاثة أخرى من النحاس، والتوازن بينها يعطي تناغما».

يعتبر الحرفي محله متحفا للآلات وذلك يصر على الاستمرار في العمل رغم أن الحرفة تراجعت كثيرا في السنوات الأخيرة، حيث يصر على الحفاظ على هذا الإرث أو المهارة اليدوية التي تعكس شغف الإنسان بالموسيقى كما عبر.
أخبرنا، أن له طقوسا مكرسة تمنحه السعادة في هذا المكان، حيث يفتح محله كل صباح ويُعدّ قهوته، ثم يجلس على كرسيه الخشبي ويبدأ في العزف على آلة لم تكتمل بعد»
يعلق :« أنا لا أهدف للربح فقط، بل أحب المهنة وأريد أن أترك أثرا، فآلات اليوم إلكترونية في مجملها ولا تحمل في رأيي روح الموسيقى الحقيقية التي تستمد من الحرف اليدوية و تنبعث من رائحة الجلد والخشب ويغذيها مفهوم الصبر». ولا يشكل محلّ عادل مجرد ورشة لصنع الآلات، بل يعتبر صندوقا للذاكرة، لأن كل قطعة تحمل قصة وكل صوت يخبئ حكاية عن بشر وعن فرح أو نغمة حزن، وهو حضن يحفظ الحرفة اليدوية من الاندثار ونغمة حنين في زمن تتسارع فيه التكنولوجيا وتُستبدل فيه الأوتار بالبرمجات، فيبدو عادل وكأنه حارس يحارب النسيان بالصبر والجلد والموسيقى بين جدران مغطاة بالجلود والخيوط والأخشاب.
عبدالغاني بوالودنين

آخر الأخبار

Articles Side Pub-new
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com