تستقطب فيديوهات التنمية الذاتية والمحتوى النفسي شريحة واسعة من المشاهدين في الآونة الأخيرة، خاصة من طرف أولئك الباحثين عن السلام الداخلي والتصالح مع الذات، ويعود ذلك إلى بروز مختصين في علم النفس اختاروا التوجه نحو العالم الافتراضي، لتقريب هذا المجال من الناس وتبسيط مفاهيمه، فضلا عن تجاوز النمطية المرتبطة به.
وقد أسهم هذا التوجه في جعل الجمهور أكثر إقبالا واهتماما بعلم النفس مقارنة بأي وقت مضى، بعدما صار مادة يومية متاحة على منصات التواصل الاجتماعي تقدم حلولا عملية وأساليب للتكيف مع ضغوط الحياة.
فيديوهات العلاقات الاجتماعية ترند المواقع الافتراضية
وحسب ما لحظناه من خلال معاينتنا الافتراضية لبعض الصفحات التي تنشر محتوى نفسيا، فإن أكثر الفيديوهات المتداولة عبر المنصات الرقمية، تلك التي يقدمها نفسانيون مشهورون في قوالب مرئية مبسطة تدور في معظمها حول كيفية التعامل مع ضغوطات الحياة والعمل ومواجهة صدمات الطفولة وتجاربها القاسية، إلى جانب موضوعات الذكاء الاجتماعي وتنمية المهارات العاطفية والذهنية، وهي محاور تعكس في جوهرها طبيعة التحديات التي يواجهها الفرد المعاصر في ظل التحولات الاجتماعية والاقتصادية السريعة.
كما أن الفيديوهات التي تتناول العلاقات الاجتماعية والعاطفية صارت بدورها تتصدر قائمة أكثر المضامين مشاهدة، نظرا لارتباطها المباشر بحياة الأفراد اليومية وبحاجتهم إلى حلول سريعة ومقنعة.
وقد أسهم هذا المحتوى في تغيير الصورة النمطية عن علم النفس، بعد أن كان ينظر إليه في السابق بوصفه علما معقدا أو مقترنا بالمرض العقلي فقط.
تشافي اجتماعي من وصمة المرض النفسي
بفضل منصات التواصل الاجتماعي، صار النقاش حول التجارب العلاجية مع الأطباء النفسانيين أمرا عاديا ومتداولا، بل وبدأ كثير من المتابعين يروون علنا رحلتهم مع الاستشارات النفسية، وكيف ساعدتهم على تجاوز أزماتهم، وهو ما لم يكن مألوفا في السابق بسبب ثقافة التحفظ والخوف من «وصمة المرض النفسي»
وتبرز في هذا المشهد أسماء لنفسانيين حجزوا لأنفسهم مكانا في الفضاء الافتراضي، على غرار الدكتور عبلة، وهالة غلاس، وزياد سبايس، وغيرهم ممن تمكنوا بفضل محتواهم المبسط والعملي من جذب مئات الآلاف من المتابعين. وحسب ما لحظناه، فإن هؤلاء المؤثرين لم يكتفوا بتقديم نصائح عامة فحسب، بل سعوا أيضا إلى تصحيح المغالطات المنتشرة حول علم النفس، وإزالة الخلط الشائع بينه وبين طب الأعصاب أو الطب النفسي السريري، فضلا عن كسر الحاجز النفسي الذي يمنع الناس من زيارة العيادات النفسية أو طلب الاستشارة المتخصصة.
وحسب ما رصدناه كذلك، فقد أحدثت هذه الفيديوهات حركية غير مسبوقة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أضحت موضوعا دائما للنقاش والتداول، بل تحولت إلى مصدر إلهام وتشجيع على خوض تجارب علاجية حقيقية.
ومن خلال متابعة التعليقات والتفاعلات، يمكن ملاحظة أن الحديث عن التجربة العلاجية مع الطبيب النفساني صار من الأمور المقبولة، بل إن البعض بات يعتبره علامة على وعي متقدم ومسعى جاد لتحسين جودة الحياة. وهذا ما يعكس التحول الثقافي الكبير الذي يشهده المجتمع في علاقته بالصحة النفسية، والذي يعود الفضل فيه بدرجة كبيرة إلى الانتشار الواسع للمحتوى الرقمي المتخصص.
* النفسانية العيادية ريمة هزيل
هذه أكثر المحتويات النفسية استقطابا للمشاهدين
أكدت الأخصائية النفسانية العيادية ريمة هزيل، أن الإقبال الكبير على المحتويات النفسية المنشورة عبر منصات التواصل الاجتماعي يعود أساسا إلى غياب ثقافة نفسية راسخة في المجتمع، وضعف الوعي بأهمية زيارة الأخصائي النفسي، وهو ضعف ضاعف الحاجة للمعرف والاستفسار.
وأوضحت، أن العديد من الأشخاص يلجؤون إلى هذه المواد الافتراضية بحثا عن مصدر يخفف معاناتهم ويساعدهم على فهم ذواتهم في ظل نقص البدائل المتاحة، لكن شددت في المقابل على أن هذه المحتويات لا يمكن أن تكون بديلا عن الاستشارة النفسية المتخصصة، مبرزة أنها تتلقى باستمرار طلبات لإجراء جلسات علاجية افتراضية، غير أنها ترفض ذلك لأن التشخيص الصحيح بحسبها، يتطلب مقابلة مباشرة وفحصا دقيقا للحالة. وأضافت المتحدثة، أن المحتوى النفسي على الرغم من مساهمته في تصحيح العديد من المغالطات الشائعة، خاصة الخلط بين علم النفس والطب العقلي وطب الأعصاب، إلا أنه قد ينطوي أيضا على مخاطر حقيقية، مثل التعميم في التشخيص أو تقديم حلول سريعة للشفاء، قد تكون غير ناجعة بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من اضطرابات متقدمة، لأن كل حالة نفسية تحتاج إلى بروتوكول علاجي خاص ومتابعة دقيقة. ولفتت هزيل، إلى أن أكثر المواد النفسية استقطابا للمشاهدين هي تلك التي تتناول العلاقات الإنسانية، وعلى وجه الخصوص المحتويات المتعلقة بـ»الشخصية النرجسية»، و»العلاقات السامة»، إضافة إلى مواضيع الاكتئاب والاضطرابات المرتبطة به.
وكشفت الأخصائية، أن الفئة العمرية الأكثر اهتماما بهذه المواد تتراوح بين 17 و39 سنة، مع تسجيل متابعة أيضا لدى فئة الكهول، مشيرة إلى أن النساء يمثلن النسبة الأكبر من المتفاعلين مع هذا النوع من المحتوى.
* الأخصائية النفسانية نسيمة صحراوي
المواد الافتراضية لا تغني عن المسار العلاجي المهني
وبحسب الأخصائية النفسانية العيادية نسيمة صحراوي، فإن منصات التواصل الاجتماعي شهدت في السنوات الأخيرة انتشارا واسعا لفيديوهات التنمية الذاتية والمحتوى النفسي، حيث أصبحت هذه المواد الرقمية بحسبها تستقطب اهتمام فئات واسعة من الجمهور، لا سيما الشباب والراشدين الباحثين عن الطمأنينة والسلام الداخلي، وعن حلول عملية للتصالح مع الذات.
ويعود هذا الإقبال المتزايد بحسب صحراوي، إلى بروز جيل جديد من المختصين في علم النفس ممن اتجهوا نحو العالم الافتراضي، مستفيدين من قوته التواصلية الكبيرة، من أجل تبسيط المفاهيم النفسية ونشر ثقافة الصحة النفسية، إضافة إلى تفكيك المخاوف التي كانت تحيط بهذا التخصص.
وأكدت المتحدثة، أن هذه الموجة الجديدة ساهمت في ترسيخ قناعة عامة بأن الصحة النفسية لا تقل أهمية عن الصحة الجسدية، وأن التوجه نحو الطبيب النفساني لا يعد عيبا أو ضعفا، بل هو شكل من أشكال القوة والشجاعة في مواجهة الذات.وشددت الأخصائية، على أن التطبيب النفسي له قواعد وضوابط علمية دقيقة، ولا يمكن أن يظل حبيس منصات التواصل الاجتماعي ولا منغلقا داخل العيادات، بل ينبغي أن يقوم على التوازن بين التوعية الافتراضية والمتابعة العلاجية الميدانية.
وقالت، إنها ترفض تماما فكرة التشخيص النفسي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدة أن زيارة الأخصائي النفساني تعد اليوم ضرورة قصوى، لأنه وحده القادر على تقديم تشخيص دقيق وعلاج ممنهج. مضيفة، بأن الكثير من المرضى الذين تستقبلهم في العيادة يعترفون بأنهم حاولوا معالجة أنفسهم من خلال ما يتابعونه من محتويات نفسية على المنصات الرقمية، لكنهم فشلوا في ذلك، واضطروا في النهاية إلى طلب العلاج المتخصص، وهو ما يثبت حسبها أن هذه المواد الافتراضية لا يمكن أن تغني عن المسار العلاجي المهني
تحذيرات من طرق علاج سريعة ومختزلة
وأوضحت الأخصائية، أن ما يدفع الناس إلى الإقبال على المحتويات النفسية يعود إلى الخوف من وصمة المرض النفسي التي ما تزال تحرج المجتمع، إضافة إلى ارتفاع تكاليف العلاج النفسي الذي يشكل عبئا ثقيلا على كاهل الكثير من المرضى. كما حذرت صحراوي، من خطورة التعامل السطحي مع بعض الاضطرابات، مؤكدة أن المريض يكون في حالة هشاشة وضعف قد تدفعه أحيانا إلى التفكير في الانتحار، لذلك لا يجب تبسيط الأمراض النفسية أو الترويج لطرق علاج سريعة ومختزلة عبر مواقع التواصل. وأشارت المتحدثة في السياق نفسه، إلى أن انتشار بعض الممارسات الدخيلة على علم النفس عبر الفضاء الافتراضي يثير القلق، مستشهدة بما يعرف بـلوحة المسامير وغيرها من التقنيات التي يتم الترويج لها على أنها وسائل علاجية نفسية، مؤكدة أن علم النفس بريء تماما من مثل هذه الادعاءات.
لينة دلول