تكتب علاقة الأحصنة وأصحابها أبلغ قصص الوفاء، ففي الأفلام والمسلسلات تعود الخيول دائما إلى أهل الخيالين لتخبر بمصائرهم، لأن ما يربطهما أقرب إلى التخاطر بين الأرواح، خصوصا وأن هذا الحيوان الأصيل يعرف بانسجامه مع من يجيد ترويضه، وهو ما لاحظناه خلال زيارة إلى نادي الفروسية بمدينة قسنطينة، أين رصدنا التفاعل الكبير بين فرسان شباب وأحصنتهم، حيث كان العناق الجسدي و التواصل البصري بينهم قويا جدا، وقد حدثتنا فارسة من النادي، عن هذا الرباط المعنوي الوثيق بين الإنسان والحيوان، وعن مواقف تترجم معاني الصبر والإخلاص.
أحصنة قادرة على التواصل وقراءة المشاعر
تهاني موسى وساعي، فارسة شابة من قسنطينة، قالت إن الحصان رفيق عمرها، وإنه الصديق الذي لا يخذل صاحبه أبدا، فمنذ أن أمسكت باللجام أول مرة وهي طفلة، كان واضحًا أن حياتها ستأخذ منحى مختلفًا، وأن الخيول لن تكون بالنسبة لها مجرد هواية عابرة أو رياضة موسمية، بل قدرٌ ومسار طويل.
أوضحت محدثتنا، التي قابلناها بنادي الفروسية ببوالصوف، بأن علاقتها بالحصان تمتد إلى أكثر من عشرين سنة، وقد تكللت بالمشاركة في دورات للقفز على الحواجز داخل الجزائر، جعلتها شاهدة على تطور رياضة الفروسية محليا، لكنها منحتها قبل ذلك تجربة إنسانية استثنائية مع كائن تعتبره «الأقرب للإنسان من أي حيوان آخر».
بداية الحكاية مع الأحصنة التي يملك كل واحد منها اسما، تعود إلى مرحلة الطفولة كما قالت الفارسة مسترسلة: «أحببت الأحصنة منذ الصغر، كنت أراها كائنات قوية وحنونة في الوقت نفسه، ومع أول ركوب لي شعرت أني أدمنت هذه الرياضة، فمن يمتطي الخيل أول مرة لن يستطيع الابتعاد عنها بعد ذلك أبدا.»
جعلها هذا الإدراك المبكر لفكرة أن العلاقة مع الخيل مختلفة تمامًا عن أي نشاط آخر، تتمسك بالشغف وتكرّس له وقتها وحياتها، وهو تحديدا ما ضاعف إرادتها لمواجهة كل الصعاب بما في ذلك تكاليف التدريب والعناية بالخيل وغيرها من تفاصيل أخرى، التي أشارت إلى أنها كانت تتجاوزها في كل مرة لأنها تعتبر فرسها «فاطمة» كفرد من العائلة حتى أنها لم تكن تشير إليه بوصفه حيوانا وهي تتحدث عنه، بل كانت تذكره كصديق.
تقول الشابة : «كانت لدي فرس، كلما أنادِيها كانت تركض إليّ مسرعة وكأنها طفلتي الصغيرة.» عزز هذا الشعور قناعتها بأن الخيل ليس فقط وسيلة لممارسة الرياضة و الفوز في البطولات، بل رفيق حياة حقيقي يحتاج للرعاية، والاهتمام، وحتى العاطفة مثل الإنسان تماما. وقد كررت على مسامعنا مرارا قولها بأن «تربية الخيل هوية قبل أن تكون هواية أو تجارة، والهوية انعكاس لانتماء القلب، كما أن الثقة أساس العلاقة بين الفارس والحصان». وتؤمن الفارسة بأن فرسها تمتلك قدرة مدهشة على قراءة مشاعر الإنسان. تقول «: يشعر الخيل بنواياك فإذا كنت خائفاً لن يسمح لك بالركوب مهما حاولت، لكنه يحب الفارس الذي يسيطر عليه بثقة ويرفض الإنسان الضعيف.»
هذا ما تحبه الخيول
أخبرتنا محدثتنا، أن أول مواجهة مع الحصان تعتبر حاسمة في تحديد نوع العلاقة بين الإنسان وهذا الحيوان، فإن استطاع الشخص السيطرة عليه منذ البداية، سيخضع له الحصان بسهولة ويصبح رفيقه الوفي بمعنى أن الحصان يخضع صاحبه أولا لاختبار ثقة وصبر وتحكم ليتأكد إن كان يستحق إخلاصه له. وأوضحت تهاني من جهة ثانية، أن تفاصيل العناية اليومية بالخيل لا تنتهي لأن امتلاك حصان مسؤولية كبيرة، وأكدت أن النظافة بالنسبة له أهم من أي شيء آخر، فهو حيوان يحب أن يبقى نظيفًا دائماً، كما تأتي الصحة في مستهل الأولويات لذلك يحتاج الحصان لعناية طبية دورية وفحص منتظم.
وأضافت الفارسة بالقول، بأن الاهتمام بالجانب النفسي للخيل لا يقل أهمية عن توفير الغذاء المناسب له، معلقة: «يجب أن تتحدث مع الحصان كأنك تحدث إنسانًا لأن التواصل اللغوي يوطد العلاقة بينكما وصوتك سيصبح مألوفا لديه وهو ما سيجعله يشعر بالأمان في حضورك». وحسبها، فإن الحصان كائن حساس، يشعر بالملل، والإحباط، والغيرة وحتى الاشتياق، لذلك تصر على أن تمنحه وقتاً خاصاً للمداعبة والعناية إلى جانب جلسات استحمام ومساج بعد كل تدريب أو سباق.
الغذاء سر القوة والرشاقة ومفتاح التفوق في المنافسات
وتولي الفارسة اهتماماً بالغاً لتغذية الخيل، خاصة في مراحل النمو الأولى كما أوضحت قائلة : «يعتمد المهر حديث الولادة على حليب أمه، ولذلك يجب الاعتناء بالأم جيدا عبر توفير تغذية خاصة تحتوي على أعشاب تزيد من إدرار الحليب».
تواصل: «يتكون الغذاء اليومي من الشعير الذي يقدم للفرس بمعدل حصتين، إلى جانب إطعامها التبن وبعض الخضر الطازجة، ويجب أن تقدم الوجبات بانتظام دون إفراط لأن الكميات الكبيرة قد تسبب مشاكل صحية خطيرة».
وتشير محدثتنا، إلى أن هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تصنع الفارق بين حصان يتمتع بصحة جيدة وآخر يعاني من مشاكل تؤثر على أدائه في المنافسات الرياضية.
كما تحدثت تهاني، عن الرعاية الطبية والوقائية كجزء أساسي من العناية بالخيول، وشددت على أهمية المتابعة البيطرية موضحة : «أحرص على عرض الحصان على الطبيب البيطري كل ثلاثة أشهر، حتى وإن بدا سليماً لأن الوقاية أفضل بكثير من العلاج».
كما تؤكد أيضا، على ضرورة تغيير نعل الحصان كل 40 يومًا، لتفادي إصابات الأرجل، خاصة بالنسبة للخيول المخصصة للقفز أو السباقات فبين خيول السباقات وخيول الركوب فرق كبير حسبها.
تقول مفصلة في الموضوع: «تحتاج خيول السباقات إلى عناية خاصة، من تدريب مكثف إلى تغذية دقيقة وحتى طريقة تجهيزها مختلفة، أما خيول الركوب العادية، فهي أقل تعقيدًا من جانب الرعاية لكنها تظل بحاجة إلى متابعة مستمرة أيضا.» وهذا التمييز مهم كما قالت الفارسة لأنه يحدد الجهد، والوقت، والموارد، التي يجب تخصيصها لكل حصان بحسب المهمة المرجوة منه.
هواية مكلفة
وبخصوص أسعار الأحصنة توضح الشابة، أنها تختلف معلقة «يبدأ سعر الحصان من 500 ألف دينار جزائري، وقد يتجاوز هذا الرقم بكثير وذلك بحسب النوع والإمكانيات.»
وحسب تهاني، فإن أغلب الخيول مستوردة، لكننا مع ذلك نفخر في الجزائر بوجود الخيل العربي الأصيل، والخيل البربري اللذين يحتفظان بقيمتهما وجمالهما وندرتهما. وتضيف، أن قيمة الخيول تكمن في أنها مدرسة في الصبر والانضباط والتواصل معها يعلم الفارس التحكم في المشاعر قائلة: «يجبرك الحصان على أن تكون إنساناً متوازناً، إذا فقدت السيطرة على نفسك ستفقد السيطرة عليه.» وترى أن الفروسية ليست مجرد ترف، بل وسيلة لتربية النفس وصقل الشخصية خصوصاً لدى الشباب.
ذكريات ومواقف لا تنسى
لا تخلو مسيرة الفارسة من مواقف مؤثرة، حيث تتذكر حصاناً رفض أن يأكل لأيام لأنه شعر بالغيرة من اهتمامها بحصان آخر غيره، وحصاناً آخر كان يركض إليها كلما سمع صوتها، حتى من مسافات بعيدة.
هذه المواقف تقول الشابة، جعلتها أكثر يقيناً بأن الخيل كائن عاطفي حقيقة، يملك مشاعر مشابهة لمشاعر الإنسان، معلقة: «ركوب الخيل بالنسبة لي ليست مجرد رياضة أو وسيلة للمشاركة في البطولات، فالحصان رفيق العمر وكائن يستحق الاهتمام، ومن يمنحه الثقة والاهتمام سيجد فيه صديقاً وفيّاً لا يخذله أبداً».
عبد الغاني بوالودنين