تتزايد مع الدخول الاجتماعي وعودة الأفراد إلى الوظائف والدراسة الضغوطات اليومية التي يعيشونها، سواء بسبب العمل لساعات طويلة والانشغالات الأسرية، ووسائل النقل و ضغط حركة المرور، وحتى تقلبات الجو خريفا، وغالبا ما تنعكس هذه الضغوطات والعوامل في شكل آلام جسدية مختلفة أبرزها صداع الرأس أو حمى خفيفة، يلجأ أناس إلى تجاوزها عن طريق تناول مسكنات الألم و تحديدا الباراسيتامول، ويكون ذلك بطريقة عشوائية ودون استشارة الطبيب، ما يؤدي إلى مضاعفات بالغة الخطورة على الصحة.
وفي هذا السياق يؤكد مختصون للنصر، أن مسكنات الألم رغم فعاليتها في التخفيف الفوري من الأوجاع، تحمل مخاطر كبيرة إذا استهلكت بجرعات زائدة أو بصفة عشوائية، لاسيما أن غالبيتها تحتوي على مواد قد تهدد سلامة الكبد والكلى والقلب، وتحدث اختلالات في الدم والجهاز المناعي.
الصيدلي شريك أساسي في التوعية بخطورة المسكنات
أكدت الأخصائية الاستشفائية الجامعية ومختصة في علم الصيدلة بكلية الطب بجامعة باجي مختار عنابة، الأستاذة وداد سعيدي، أن الصيدلي يلعب دورا كبيرا في التوعية الطبية فيما يتعلق باستعمال مسكنات الألم مشددة، على ضرورة توجيه المرضى نحو الاستعمال الصحيح لهذه الأدوية التي كثيرا ما يتم استهلاكها بشكل عشوائي وخاطئ.
وأوضحت المتحدثة، أن مهمة الصيدلي لا تقتصر على صرف الدواء فقط، بل تشمل تحديد الجرعة المناسبة، وتنبيه المريض إلى طريقة الاستعمال الصحيحة، مع مراعاة أن تناول المسكنات يختلف من شخص لآخر حسب العمر، المرض، والحالة الصحية العامة. وأضافت، أن استعمال المسكنات دون استشارة طبية، خصوصا من طرف المصابين بالأمراض المزمنة، يشكل خطرا كبير على صحتهم.وبينت الأخصائية، أن من مسؤوليات الصيدلي كذلك تحديد المدة الزمنية المسموح بها عند تناول بعض المسكنات، فهناك أدوية لا ينبغي تجاوز استهلاكها ثلاثة أيام، وإلا تحول الاستعمال إلى خطر على صحة المريض. وأشارت إلى أن تجاوز الجرعات قد يؤدي إلى أضرار جسيمة على الكبد.وأضافت، أن الخطورة تتضاعف في حال تناول المريض عدة أدوية تحتوي كلها على الباراسيتامول، ما يؤدي إلى تراكم المادة في الجسم وحدوث تسمم كبدي خطير. ولهذا شددت على أهمية قراءة النشرة الداخلية لكل دواء بدقة، والتأكد من مكوناته قبل استهلاكه. وذكرت سعيدي، أن أغلب المسكنات تضر الكبد، لذلك يستحسن أن يتجنبها مرضى الكبد قدر الإمكان، كما نبهت إلى خطورة استهلاك هذه الأدوية بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من حساسية تجاه بعض المكونات، مؤكدة أن الصيدلي عليه أن ينبه المريض إلى هذه المخاطر قبل صرف الدواء.وأضافت، أن تناول المسكنات قد يخفي الأعراض الحقيقية لمرض معين ما يصعب على الأطباء الكشف عنه في الوقت المناسب، وهو ما يؤخر العلاج الصحيح ويضاعف الأخطار الصحية على المريض.
وبخصوص لجوء بعض المرضى إلى المسكنات ذات المصدر الطبيعي أوضحت الأخصائية، أن الأمر يتطلب بدوره تثقيفا صحيا، لأن الاعتقاد بأن البديل الطبيعي آمن ليس صحيحا دائما، فالاستهلاك المفرط لبعض الأعشاب مثل النعناع، البابونج أو الكركم، قد يسبب تفاعلات تحسسية أو مضاعفات أخرى غير متوقعة خصوصا إذا تم مزج المنقوع بمسكن الألم.
وحذرت، من تداخل الأدوية الطبيعية مع المسكنات الكيميائية، إذ قد يؤدي الجمع بينهما إلى تفاعلات خطيرة داخل الجسم، وهو تحديدا ما يعزز دور الصيدلي في تنبيه المرضى إلى هذه التداخلات، والتأكيد على أن كل دواء سواء كان طبيعيا أو كيميائيا، يجب أن يستهلك بوعي وباستشارة طبية مسبقة.وأشارت في ذات السياق، إلى أن الصيدلي يبقى حلقة أساسية في سلسلة التوعية الصحية، باعتباره الأقرب إلى المريض، والأقدر على تقديم النصيحة الصائبة حول الجرعة، المدة، والمخاطر المحتملة.
الطبيب المختص في الصحة العمومية أمحمد كواش
مخاطر جسيمة محتملة آنيا وعلى المدى البعيد
شدد الطبيب المختص في الصحة العمومية أمحمد كواش، على أن المخاطر الناجمة عن الاستهلاك المفرط للمسكنات لا تتوقف عند حد معين، بل تمتد لتشمل المدى القريب، والمتوسط، والبعيد. فمن بين الأعراض التي قد تظهر بسرعة بحسبه، التسمم الدموي الحاد واضطرابات الجهاز الهضمي، ومشاكل في ضغط الدم، إضافة إلى التأثير على وظائف الكبد والكلى.أما على المديين المتوسط والبعيد، فقد يواجه الإنسان أمراضا خطيرة مثل التليف الكبدي، التهابات الكبد المزمنة، القصور الكلوي، وفقر الدم الناتج عن تراجع إنتاج خلايا الدم الحمراء.
كما أضاف المتحدث، أن الاستهلاك العشوائي يؤدي إلى إحداث خلل وراثي يمكن أن ينتقل عبر الأجيال، وذكر أن العديد من دراسات أثبتت أن الأمراض النادرة والمناعية التي تصيب الأطفال ترتبط بتاريخ استهلاك الأجداد لمسكنات الألم بطريقة مفرطة وغير مدروسة.
وحسب ما أوضح الأخصائي، فإنه ومن بين الظواهر المقلقة أيضا، تفشي الاستهلاك العشوائي للمسكنات، إذ ينصح مريض آخر بتناول دواء معين متجاهلا حقيقة أن كل جسم يتفاعل بطريقة مختلفة مع مكونات الدواء. وهناك من يلجؤون حسبه، إلى تجديد الوصفات الطبية بشكل متكرر للحصول على نفس العقار الذي اعتادوا عليه، ما يدخلهم في دوامة الإدمان.وشرح الطبيب، أن الإدمان على المسكنات يأخذ أشكالا عدة فهناك الإدمان النفسي، حيث يتعود المريض على دواء معين ولا يستطيع الاستغناء عنه حتى وإن وصف له الطبيب بديلا آخر. وهناك أيضا الإدمان المرتبط بتركيز العقار، إذ يميل البعض إلى البحث عن المسكنات الأقوى والأشد تأثيرا، والأخطر كما قال أن تجاوز الجرعة 4 غرامات في اليوم، وهو ما يؤدي إلى تسمم دموي قد يتسبب في سكتة قلبية أو فشل كلوي أو تليف كبدي قاتل.
بدائل طبيعية آمنة
وحسب ما أشار إليه كواش، فإنه توجد بدائل طبيعية وصحية يمكن أن تساهم في التخفيف من الأوجاع دون اللجوء إلى الأدوية الكيميائية، وكذر ممارسة الرياضة بانتظام، خاصة السباحة والتمارين الخفيفة التي تساعد على تنشيط الدورة الدموية وتخفيف التشنجات العضلية.
كما تعد الحمامات المعدنية والطبيعية، وحتى الاستحمام بالماء البارد طرقا فعالة للتخفيف من الألم، إضافة إلى ذلك يمكن الاعتماد على تقنيات التدليك واليوغا للاسترخاء وتخفيف الضغط العصبي، فضلا عن بعض العلاجات البديلة مثل الوخز بالإبر الصينية والحجامة، التي قال بأنها أثبتت فعاليتها في مواجهة أنواع مختلفة من الألم. كما نبه الطبيب، لعدم إغفال الجانب النفسي لأن بعض الألم مرتبط حسبه بالتوتر النفسي أو القلق الداخلي وليس السبب عضويا دائما.وأكد المتحدث، على الدور الكبير الذي يقع على عاتق الأطباء والصيادلة في التوعية والتحسيس بخطورة الاستهلاك العشوائي للمسكنات، فالمريض يجب أن يفهم أن هذه الأدوية لا تستعمل إلا عند الحاجة وبجرعات محددة يوصي بها الطبيب. كما ذكر، أنه ينبغي على الصيادلة الامتناع عن بيع أي دواء دون وصفة طبية، لأن تكرار بيع نفس العقار لمريض بعينه قد يفتح له باب الإدمان.
كما أوضح المتحدث، أنه يتوجب على الأسر غرس ثقافة استهلاكية صحية لدى أفرادها، تقوم على عدم ترك الأدوية في متناول الجميع أو تبادل النصائح الطبية بشكل غير مسؤول، فالتصرفات البسيطة مثل تقديم قرص مسكن لشخص يشتكي من صداع قد تفتح الطريق أمام مشكلات صحية أكبر. وقال، بأن الظاهرة لا يمكن محاصرتها دون تدخل صارم من الهيئات الوصية، إذ يجب فرض رقابة مشددة على بيع الأدوية ومعاقبة من يروجها بطريقة عشوائية، لأن ذلك لا يؤثر فقط على صحة الأفراد بل يهدد الصحة العمومية ويحدث خللا في وفرة بعض الأدوية الضرورية للمرضى الذين يحتاجونها فعلا.وأوضح المتحدث، أن الوعي بخطورة الاستهلاك المفرط لمسكنات الألم، وتعزيز ثقافة بدائل العلاج الطبيعية والآمنة، هو السبيل الأمثل لحماية الصحة الفردية والجماعية من مخاطر صامتة قد تتحول إلى أمراض مستعصية تهدد حياة أجيال بأكملها.
احتمال زيادة مخاطر التوحد وفرط الحركة وتشتّت الانتباه لدى الأطفال
من جهته، نشر الأخصائي النفساني العيادي ياسين عداون ، عبر صفحته على فيسبوك أين يقدم محتوى توعويا دراسة حديثة عن مخاطر استخدام الباراسيتامول أثناء الحمل.
وأوضحت الدراسية، أنه عندما تتعرّض الأجنة لمادة الأسيتامينوفين المعروفة تجاريًا باسم تايلينول أو الباراسيتامول أثناء الحمل، فقد يكون الأطفال مستقبلا أكثر عرضة للإصابة باضطرابات النمو العصبي بما في ذلك التوحّد واضطراب فرط الحركة وتشتّت الانتباه.
نُشرت هذه الدراسة في 14 أوت 2025 في مجلة BMC Environmental Health. وقد كان أندريا باكاريلي، عميد كلية الصحة العامة بجامعة هارفارد وأستاذ الصحة البيئية، المؤلف الرئيس المسؤول عنها، بمشاركة فريق البحث بكلية إيكان للطب في ماونت سايناي، ومؤلفين مشاركين من مؤسسات أخرى.
وحلّل الباحثون نتائج 46 دراسة سابقة شملت بيانات أكثر من 100,000 مشارك، تناولت الارتباط المحتمل بين استخدام الأسيتامينوفين أثناء الحمل وظهور اضطرابات النمو العصبي لدى الأطفال.
واعتمد الفريق البحثي على منهجية Navigation Guide Systematic Review، وهي إطار علمي رائد لتجميع وتقييم بيانات الصحة البيئية، مما أتاح لهم إجراء تحليل صارم وشامل قدّم أدلة داعمة لوجود علاقة بين التعرّض للأسيتامينوفين خلال الحمل وزيادة معدلات الإصابة باضطرابات النمو العصبي.
وأشار الباحثون في الدراسة، إلى أنّه رغم ضرورة اتخاذ تدابير للحد من استخدام الأسيتامينوفين، إلّا أنّ هذا الدواء يظل مهمًا لعلاج الحُمّى وآلام الأمهات، والتي قد تضرّ بدورها بصحة الأجنة.
وكتبوا في توصياتهم « ننصح باستخدام الأسيتامينوفين بحذر، وبأقل جرعة فعّالة ولأقصر مدّة ممكنة، وتحت إشراف طبي، مع مراعاة التقييم الفردي للمخاطر والفوائد، بدلًا من فرض قيود شاملة على استخدامه».
لينة دلول