السبت 27 سبتمبر 2025 الموافق لـ 4 ربيع الثاني 1447
Accueil Top Pub

آخر الحرفيين يتحدثون عن الصنعة: اللبـاس التقليدي الرجالي القسنطيني.. موروث يقاوم الاندثار

في قلب المدينة العتيقة بقسنطينة، بين الأزقة الضيقة والبيوت العربية، ما يزال عبق الماضي يتسلل من بين أنامل رجال اختاروا الوفاء للموروث الثقافي المحلي، من خلال حرفة صناعة اللباس التقليدي الرجالي أو اللباس « العربي» أو « الحطة»، الذي يكاد يندثر بعدما تراجع الطلب عليه ولم تعد تطلبه سوى قلة قليلة من الناس.

لطالما كان هذا اللباس عنوانًا للأصالة والهوية، وبطاقة تعريف تقدم الرجل القسنطيني الأنيق، لكنه يواجه اليوم تحديات العصر ويحاول الصمود في وجه الموضة التي ابتلعت كل شيء، فسقط «السروال العربي، وسروال الحوكة» من خزائن رجال المدينة وغاب « القميص»، ويكاد « البرنوس» يختفي تماما، حاله حال « الكبوس»، و»الشاشية أو العراقية»، و«الشال الأصفر المذهب» الذي كانوا يضعونه على الأكتاف
أناقة أهل المدينة
يقول توفيق بن زقوطة، واحد من أبناء مدينة قسنطينة والمهتمين بتراثها والمواظبين على ارتداء الزي التقليدي الرجالي، إن رجال المدينة عرفوا دائما بأناقتهم، وإن اللباس التقليدي الجميل والمرتب دليل على مكانة الرجل و اهتمامه بنفسه و نظافته ومظهره.
مشيرا إلى أن المظهر القسنطيني ينقسم إلى قسمين، الأول بسيط وهو الشائع ويعتمد على «الشاشية أو العراقية»، و»أحيانا الكبوس العصملي» على الرأس. والعراقية القسنطينية تحاك من الخيوط وتشتهر بصناعتها عائلة بن حسين، وتنسق عادة مع السروال إما «سروال عرب» و» السروال التركي»، وإما «الحوكة» أو « السروال الطويل». يضم الزي كذلك قطعة مهمة هي القندورة، وتكون طويلة ومزينة على الجانبين بتطريز خفيف، تلبس مع قميص أبيض تحتها.

وتكتمل الإطلالة بحذاء «صباط « أو « بلغة» ينسقان مع جوارب باللون الرمادي. أما الإكسسوار الأخير فيتمثل في شال أصفر مذهب يوضع على الأكتاف أو برنوس. وهناك حسبه «حطة» تخص الميسورين، تعتمد فيها سترة من القطيفة أو المخمل تكون مطرزة بخيوط الذهب، ويرتدي فوقها الرجل برنوسين الأول خفيف باللون الأبيض، والثاني ثقيل ويؤدي دور المعطف. وقال إنها إطلالة تعود لزمن العثمانيين.
حرفة متوارثة
للتعرف أكثر على اللباس وحرفة صناعته، قصدنا المدينة القديمة لمقابلة بعض الحرفيين.
داخل ورشة بسيطة يغمرها ضوء الشمس ويملؤها صوت ماكينة الخياطة القديمة، يجلس محمد قرقور، رجل في السبعين من عمره منهمكًا في خياطة «السروال العربي» بدقة وحب.
قال للنصر:» بدأت هذه المهنة عن حب بعدما ورثتها عن أبي منذ أكثر من خمسين سنة، وكان عمري لا يتجاوز 14 سنة حينذاك». وقد علمنا من زملائه في « الفندق» وهو تجمع للتجار والحرفيين، بأنه من القلائل الذين لا يزالون يمارسون هذه الصنعة في وسط مدينة قسنطينة.
أخبرنا الحرفي أن اللباس التقليدي الرجالي يشمل عدة قطع منها السروال العربي، القميص، القبعة، البرنوس، وغيرها، وكلها تُصنع يدويًا بدقة متناهية.
تابع محدثنا قائلا: «أكثر ما يطلبه الزبائن اليوم هي القشابية وتتوفر أنواع عديدة منها، فهناك ما يُصنع من قماش عادي، وما يُفصَّل من وبر الجمل وتعتبر قطعة فاخرة جدًا». يواصل عمي محمد قرقور حديثه :» نصنع أيضًا القمصان العربية، وحتى لباس الختان للأطفال حسب الطلب».
كما يؤكد الحرفي، أن الإقبال على هذا اللباس تضاءل جدا مقارنة بما كان عليه في السباق عندما كان الرجال يفضلون الزي التقليدي لإطلالاتهم في المناسبات كالأعياد والأفراح وحتى أيام الجمعة.
وحسبه، فإن الحرفة في طريقها للاندثار وهناك عدة أسباب لذلك منها انتشار اللباس الجاهز، واختلاف العادات، والأهم من ذلك غياب الوعي الثقافي عند الجيل الجديد.
مضيفا أنه رغم هذا الواقع «فإن اللباس التقليدي يظل موروثًا ثقافيًا يعبر عن أصالة وعراقة مدينة قسنطينة»، ويصر على الحفاظ عليه لأنه أمر واجب على كل الحرفيين كما عبر.
محلات ما تزال تحافظ على زبائنها الأوفياء
غير بعيد عن ورشة قرقور، يملك السيد لقمان النجار، محلا لصناعة وبيع اللباس التقليدي، تحدثنا إليه عن العرض والطلب وعن واقع السوق عموما فعلق :» نبيع كل ما يتعلق باللباس التقليدي الرجالي القمصان، والسراويل، والقبعات، والطربوش وحتى لباس الختان بمختلف أنواعه».
ويضيف :» لباس الختان يشهد إقبالًا جيدًا، خاصة من العائلات التي تختار لأبنائها زيا تقليديًا في هذه المناسبة المهمة. هناك من يختار الطراز القديم، وهناك من يفضل لمسة عصرية. البعض يُفضّل اللباس بالخيط اليدوي، والآخرون يطلبونه مصنوعًا بالآلات لأنه أقل تكلفة .»
وبخصوص اللباس الرجالي العربي الأصيل، أو ما يُعرف محليًا بـ»السروال الحوكة»، يؤكد لقمان أنه لم يعد مطلوبا وأن زبائنه يعدون على رؤوس الأصابع وهم في الغالب زبائن أوفياء يتعاملون مع المحل منذ سنوات، بينهم فنانون يؤدون المالوف وطبوع الإنشاد، لأنه مناسب أكثر لإطلالاتهم في الحفلات والمهرجانات.
الإنتاجية في مقابل الجودة

وعن دخول الآلات إلى هذا المجال، يوضح لقمان :» دخول الماكينات له إيجابيات وسلبيات، فمن جهة زادت الإنتاجية وسرّعت العمل، لكن من جهة أخرى فقد اللباس التقليدي بعضًا من خصوصيته وسحره المرتبطين بالمهارة اليدوية».
وقال محدثنا، إن الطرز التقليدي المتمثل في الفتلة، والمجبود جزء من هوية اللباس ويصنع تميزه، موضحا أنها تقنية يمكن تطبيقها على عديد الأنواع من الأقمشة.
وهي حسبه، تقنيات تضفي لمسة فنية على اللباس وتُعبّر عن المستوى الاجتماعي والذوق الرفيع لمن يرتديه فالسترة المخملية المطرزة بالمجبود أو الفترة بخيوط الذهب مثلا كانت قديما رمزا لمكانة صاحبها واقتداره المادي، وهي اليوم مطلوبة من الفنانين وهناك عرسان شباب يفضلونها لأجل طقس الحناء ولكن ذلك نادر جدا .»
وأضاف: « في مقابل ذلك فإن هذا اللباس متوفر جدا ومناسب للأطفال لكونه لباس الختان الأكثر رواجا، وعادة ما يطلب الزبائن تطريزا خاصا حسب الرغبة».
وحتى فنانو المالوف يختارون تصاميمهم بعناية أيضا كما قال، وذلك كي يتميزوا بها على الركح، معلقا « نشتغل على تصاميم حسب الطلب و نراعي التفاصيل الصغيرة التي تصنع لنا التميز».
العراقية والقميص... حضور دائم في المساجد
في محل آخر مخصص لبيع القمصان والقبعات التقليدية، أوضح البائع، أن لهذه القطع زبائنها وهم إما شيوخ، أو كهول، أو أئمة أو رجال يختارونها لأجل زيارة المساجد. فالقميص العربي له رمزية دينية وثقافية كما علق، والقبعة أيضًا تصنع بدقة وتعبّر عن عادات المدينة وتقاليدها.

ورغم ضعف الإقبال العام، لا يزال هناك أمل في عودة اللباس التقليدي إلى الواجهة، خصوصًا في ظل بعض المبادرات الثقافية لإحيائه، كالأعراس التراثية والمهرجانات المحلية، حيث يتفق حرفيون مثل محمد قرقور ولقمان النجار، على أن الوعي الثقافي هو العامل الحاسم في الحفاظ على هذا الإرث.
وبهذا الخصوص يعلق قرقور قائلا: « إذا لم نُرب أبناءنا على حب هذا اللباس، سيأتي يوم يختفي فيه القميص العربي أو السروال التقليدي في شوارع قسنطينة». ويوضح، أن اللباس التقليدي الرجالي القسنطيني ليس مجرد قطع قماش تُخاط بطريقة معينة، بل هو تاريخ يُلبس، وهوية تُحمل على الأكتاف، وجزء من روح مدينة تفتخر بأصالتها، وهي مدينة حافظت على تراثها طويلا ويجب أن تستمر على هذا النهج.
عبد الغاني بوالودنين

آخر الأخبار

Articles Side Pub-new
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com