ظهرت رياضة الكرة الحديدية بقسنطينة خلال الحقبة الاستعمارية، لتتحول عبر العقود إلى تقليد رياضي يعكس روح الجماعة، والمهارة، والتفكير الاستراتيجي. ورغم ما يثار حولها من تصورات نمطية تربطها بكبار السن والفراغ، إلا أن الواقع في السنوات الأخيرة كشف عن انتشار واسع لاختصاص "البيتانك" وسط فئة الشباب، خاصة مع سهولة الممارسة والقواعد البسيطة مقارنة باختصاص اللعب الطويل.
قد تمر بجانب أشخاص يمارسون اللعبة في إحدى زوايا حي شعبي أو ساحة قديمة، فتظنهم متقاعدين يقضون الوقت بتمرير الكرات وتبادل الدعابات، لكن ما لا تعرفه أن هؤلاء، ومعهم عدد متزايد من الشباب وحتى الأطفال في بعض الأحياء، يمارسون واحدة من أكثر الرياضات تكتيكا ودقة.
لكن خلف هذا الحراك المتجدد، تعيش الكرة الحديدية في قسنطينة معركة لأجل البقاء، فالملاعب التاريخية بوسط المدينة، وباب القنطرة وسيدي مبروك إما أهملت أو اندثرت كليا، بينما تكافح الجمعيات الرياضية في ظل نقص التمويل وتغير خارطة العمران، إذ أفرز التحول الديموغرافي و الترحيلات نحو الأحياء الجديدة مثل علي منجلي اختفاء الملاعب، ما جعل العديد من ممارسي اللعبة يواجهون صعوبات في الحفاظ على استمراريتها.
تاريخ ممتد وحاضر يحتاج تثمينا
وفي تصريح خص به النصر، أكد يوسف مريمش، رئيس رابطة قسنطينة لرياضة الكرة الحديدية وعضو الفيدرالية الوطنية، أن المدينة كانت معقلا تاريخيا لهذه الرياضة، غير أن الواقع اليوم يشهد تراجعا مقلقا في البنية التحتية وعدد الممارسين، بفعل غياب الدعم وضياع العديد من الفضاءات التي كانت إلى وقت قريب تحتضن نشاطات اللعبة.وأشار مريمش، إلى أن قسنطينة احتضنت سابقا أربعة ملاعب رئيسية للكرة الحديدية، اثنان منها في وسط المدينة، أحدهما كان تابعا لنادي مولودية قسنطينة والآخر لشباب قسنطينة. ومع تغير الإشراف الإداري على هذه الفضاءات، تحول الملعب الأول إلى ملكية للبلدية، بينما آلت ملكية الثاني إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
أما اليوم، فقد تحولت المساحتان اللتان كانتا تحتضنان منافسات الكرة الحديدية، إلى مواقف لسيارات الأجرة بمحاذاة فندقي نوفوتيل وإيبيس، في مشهد يلخص تراجع الاهتمام بهذه الرياضة في قلب المدينة.
وأضاف، أن ملعب باب القنطرة الذي تم إنشاؤه سنة 1938خلال فترة الاستعمار، يعد اليوم المعلم الوحيد الذي ما يزال يحتفظ بوظيفته الرياضية، حيث يضم ثمانية ميادين مخصصة للعب الطويل.
ولم يكن ملعب باب القنطرة الوحيد الذي صمد في وجه النسيان، إذ لا يزال ملعب حي سيدي مبروك السفلي يشهد بعض النشاط، تحت إشراف فرع نادي "الأمبيسي"، الذي يعمل حاليا على تجديد مكتبه الجمعوي الخاص بالكرة الحديدية.
وفي حديثه عن البنية التحتية في الماضي، أكد مريمش، أن قسنطينة كانت تضم 10ملاعب مخصصة للعب الطويل، توزعت بين حي المنظر الجميل، وملعبين وسط المدينة، وأربعة ملاعب بسيدي مبروك، بالإضافة إلى الملعب التابع لشركة النقل بالسكك الحديدية بحي سيدي مبروك السفلي، وهو الوحيد الذي لا يزال يستخدم إلى اليوم. وأوضح، أن هذه الملاعب كانت مخصصة كلها لاختصاص اللعب الطويل، إذ لم تعرف المدينة ملاعب خاصة بالبيتانك إلا بعد الاستقلال.ورغم هذا التراجع في عدد المنشآت، تواصل قسنطينة نشاطها عبر ست جمعيات رياضية مختصة في اللعب الطويل، من بينها "جمعية نادي الصحة"، "نادي بلدية قسنطينة"، "فريق النقل بالسكك الحديدية"، و"النجم الرياضي"، الذي تألق على الساحة الوطنية خلال السنوات الأخيرة.شدد مريمش مقابل ذلك، على أن هذا النشاط يبقى هشا في غياب بنية تحتية لائقة، ودعم مؤسساتي حقيقي، لإعادة الاعتبار لمدينة كانت بالأمس خزانا للأبطال الوطنيين في الكرة الحديدية.
بين باب القنطرة وسيدي مبروك... آخر القلاع
وسط الزحف العمراني واختفاء أغلب ملاعب الكرة الحديدية في قسنطينة، يبرز ملعب باب القنطرة كرمز تاريخي حي، لا يزال محافظا على ملامحه منذ تأسيسه سنة 1938. هو اليوم الملعب الوحيد في المدينة الذي يحافظ على طابعه ووظيفته الرياضية، بعد أن أصبح ملكا لبلدية قسنطينة، ويضم ثمانية ميادين مخصصة لاختصاص اللعب الطويل.الملعب كان في السابق تابعا لجمعية الصحة للمستشفى الجامعي ابن باديس، قبل أن يتوقف نشاطها مؤقتا في انتظار إعادة هيكلة وتنظيم مكتبها الإداري، وفق ما تفرضه قوانين الجمعيات الجديدة. إلى جانب هذا المعلم، يبرز ملعب حي سيدي مبروك السفلي كمساحة ثانية لا تزال تقاوم النسيان، ويشرف عليه حاليا فرع نادي بلدية قسنطينة"الأمبيسي"، الذي يستعد هو الآخر لعملية تجديد شاملة لأعضاء الجمعية الرياضية المكلفة بتسييره، وهي خطوة تعكس مساعي البعض لإعادة بعث النشاط وتنظيمه وفق الأطر القانونية الجديدة.لكن رغم الطابع التاريخي لهذين الفضائين، يبقى مصيرهما مرتبطا بمدى نجاح الجمعيات في إعادة تشكيل هياكلها، ومدى تجاوب السلطات المحلية مع مطالب ترميم ودعم هذه الملاعب التي تمثل اليوم الملاذ الأخير لعشاق الكرة الحديدية في المدينة.
قسنطينة تستعيد مجد الكرة الحديدية
رغم ما تمر به رياضة الكرة الحديدية من صعوبات في قسنطينة، إلا أن سجل إنجازاتها لا يزال ناصعا، يشهد على مرحلة ذهبية كانت فيها المدينة منجما للأبطال ومنصة للتتويج. فقد نجح فريق النجم الرياضي للكرة الحديدية بقسنطينة في فرض نفسه كأحد أقوى الأندية على المستوى الوطني، بعدما توج بكأس الجمهورية مرتين متتاليتين، عام 2023 في خميس مليانة، ثم عام 2024 في ولاية تيارت، ليضيف إلى ذلك لقب بطولة الجزائر للعب الفردي في نفس السنة.
وفي هذا السياق، أكد يوسف مريمش، رئيس رابطة قسنطينة للكرة الحديدية، أن هذه النتائج الإيجابية تعكس عمق التجربة المحلية وثراء التكوين، رغم الصعوبات البنيوية التي تواجهها الجمعيات الرياضية، مشيرا إلى أن قسنطينة لطالما كانت خزانا للمواهب وأرضية خصبة لإنجازات وطنية مشرفة.وسبق لولاية قسنطينة أن نالت شرف التتويج بكأس الجمهورية أيضا خلال حقبة التسعينيات، حيث ظفرت بها عام 1986، ثم كررت الإنجاز سنة 1991، مما يعكس استمرارية الحضور القوي للمدينة في هذه الرياضة، رغم تقلص الإمكانات المادية والبشرية في السنوات الأخيرة.
ولا تقتصر العلاقة بين قسنطينة والكرة الحديدية على التتويجات فقط، بل تمتد إلى التنظيم. فقد كانت المدينة ولا تزال وجهة مفضلة لاحتضان المنافسات الوطنية، حيث نظمت سنة 1983 بطولتين وطنيتين في سنة واحدة، الأولى في اللعب الطويل (ثنائية)، والثانية في البيتانك، في دلالة على انفتاحها المبكر على مختلف تخصصات هذه الرياضة. وفي بداية الألفية، بين سنتي 2000 و2004، عادت المدينة إلى الواجهة بتنظيم عدة دورات وطنية في ملعبي سيدي مبروك وباب القنطرة، قبل أن تحتضن سنة 2017دورة وطنية خاصة بالنخبة الجزائرية، إلى جانب بطولة في اختصاص البيتانك في نفس العام، وهو ما ساهم في تعزيز إشعاع قسنطينة كمركز رياضي معتبر على المستوى الوطني.واليوم، تستعد المدينة لتجديد العهد مع الأحداث الكبرى، إذ ستحتضن في أكتوبر 2025 بطولة كأس الجزائر للعب الطويل، وهي محطة مفصلية تأمل من خلالها الأسرة الرياضية المحلية أن تكون بداية لبعث جديد يعيد للكرة الحديدية في قسنطينة مكانتها الطبيعية بين الكبار.
البيتانك ينتشر في الأحياء واللعب الطويل رهين البنية التحتية
في عالم الكرة الحديدية، تصنف اللعبة إلى نوعين رئيسيين من المنافسات، اللعب القصير المعروف بـ"البيتانك"، واللعب الطويل، ولكل اختصاص خصائصه التقنية ومتطلباته الميدانية. فبينما يعد البيتانك أكثر سهولة من حيث القواعد وأقل تطلبا من حيث البنية التحتية، يحتاج اللعب الطويل إلى ملاعب بمقاييس دقيقة، بطول لا يقل عن 27.5 أمتار وعرض لا يقل عن 2.5 أمتار، في حين لا يتجاوز ملعب البيتانك 12 مترا في الطول و2.5 أمتار في العرض.
هذه الفروقات التقنية، وفق ما أكده رئيس رابطة قسنطينة يوسف مريمش، ساهمت بشكل مباشر في اتساع رقعة ممارسة البيتانك على حساب اللعب الطويل، ليس فقط على مستوى الولاية، بل عبر مختلف ولايات الوطن، حيث تمارس اللعبة الأولى في 50 ولاية، مقابل 17 ولاية فقط تحتضن نشاط اللعب الطويل.وفي قسنطينة، تظهر الهيمنة الواضحة للبيتانك، حيث لا تكاد تخلو بلدية من جمعية أو أكثر تنشط في هذا الاختصاص. فعلى سبيل المثال، تضم بلدية ديدوش مراد ثلاث جمعيات، بينما تتواجد جمعيات أخرى في عين عبيد، الحامة، زيغود يوسف، حي الشهداء، حي فضيلة سعدان، سيدي مبروك، والمقاطعة الإدارية علي منجلي. أما بلدية الخروب، فقد عرفت هي الأخرى نشاطا سابقا قبل أن تحل الجمعية المحلية التي كانت تابعة لفريق جمعية الخروب.وبلغة الأرقام، أوضح مريمش أن عدد اللاعبين المجازين في قسنطينة بلغ سنة 2025 أكثر من 550، منهم 450 في اختصاص البيتانك، مقابل 100 فقط في اختصاص اللعب الطويل، وهو تفاوت يعكس تأثير غياب البنية التحتية المخصصة لهذا الأخير، خاصة في الأحياء الجديدة التي شهدت توسعا عمرانيا كبيرا في السنوات الأخيرة، وعلى رأسها المدينة الجديدة علي منجلي، التي تفتقر كليا لهذا النوع من الملاعب، على عكس وسط المدينة.
ورغم هذا الاختلال، فإن السلطات المحلية، حسب مريمش، تبذل جهودا لإعادة التوازن، حيث تم توفير ملاعب جديدة للبيتانك في حي بوصوف، وتسعى الرابطة بالتنسيق مع الجهات المعنية إلى تخصيص ملاعب إضافية في علي منجلي والخروب، على أمل توسيع قاعدة الممارسين وتدارك الفجوة بين التخصصين.
قيود القانون ونزيف التمويل
لم يكن تراجع رياضة الكرة الحديدية في قسنطينة وليد الصدفة، بل جاء نتيجة تراكب عوامل قانونية ومادية أثقلت كاهل الجمعيات النشطة، وأعاقت جهود إعادة تنظيمها. ووفق ما صرح به رئيس رابطة قسنطينة يوسف مريمش، فإن أبرز ما عرقل عودة الجمعيات إلى نشاطها القانوني هو القانون الجديد للجمعيات الرياضية، الذي فرض شروطا صارمة لإعادة هيكلة المكاتب المسيرة، من بينها اشتراط توفر رئيس الجمعية على مستوى بكالوريا، ومرافقة خمسة أعضاء على الأقل من مستوى السنة الثالثة ثانوي، بالإضافة إلى إلزامية حضور 15 شخصا في الجمعية العامة. وهي معايير، حسب مريمش، لم تستطع العديد من الجمعيات، لاسيما الصغيرة منها، الوفاء بها بسهولة.وفي محاولة لتليين هذه القيود، أشار مريمش إلى أن وزارة الشباب والرياضة منحت مؤخرا رخصة استثنائية تسمح بتعيين عضو أو عضوين دون المستوى الدراسي المطلوب داخل المكتب، ما قد يمهد لتسوية أوضاع بعض الجمعيات التي علقت نشاطها الإداري بسبب هذه العوائق.
لكن التحدي لا يقتصر على الجانب التنظيمي فقط، بل يشمل أيضا الجانب المالي. إذ تعاني أغلب الجمعيات، حسب رئيس الرابطة، من شح كبير في الموارد، ما جعلها عاجزة عن تغطية مصاريف التنقل إلى المنافسات المحلية و الجهوية، أو اقتناء المعدات الضرورية، فضلا عن الصعوبات في تنظيم البطولات. وفي ظل غياب الدعم المؤسسي والرعاية، باتت الكرة الحديدية مرهونة بالمجهودات الفردية والتضحيات الشخصية لأعضائها.
وتزداد الحاجة إلى هذا الدعم حين يتعلق الأمر بتنظيم بطولات وطنية، وهو ما يتطلب، حسب مريمش، إمكانيات مالية ولوجيستية معتبرة لضمان مستوى تنظيمي يليق بتاريخ المدينة. ومع ذلك، تظل قسنطينة، في رأي المتابعين والفاعلين، مدينة لها باع طويل في هذه الرياضة، فقد كانت على الدوام خزانا للمنتخب الوطني، وخرجت من ملاعبها أسماء بارزة في اختصاصي البيتانك واللعب الطويل.ويرى مريمش وعدد من الفاعلين، أن السبيل الأمثل لإعادة الروح لهذه الرياضة يتمثل في الاحتكاك المنتظم بالمستوى العالي، وتنظيم منافسات وطنية كبرى، تكون بمثابة بوابة لاسترجاع المكانة التاريخية لقسنطينة على خريطة الكرة الحديدية الجزائرية.
رضا حلاس