انطلقت مؤخرا عمليات تجفيف التين وتخزينه بأرجاء مختلفة من ولاية سكيكدة سيما الجهة الغربية ، أين تعد هذه الفاكهة التي يتواصل موسم جنيها، جزءا من حاضر السكان وماضيهم ، فثمار التين ليست مجرد فاكهة موسمية إنما هي قصة تشبث بالأرض وتكيف مع الطبيعة، فبساتين «الكرطوس» التي كانت سلاحا غذائيا لمقاومة التجويع في عهد الاستعمار وحماية للبيوت من أعين الفضوليين من الجنود و المعمرين، لا تزال تشكل اليوم مصدر رزق للكثير من العائلات التي تتخذ من التجفيف نشاطا معاشيا وطقسا يجمع السكان في مختلف القرى و المداشر .
روبورتاج: كمال واسطة
الزراعة ورغم مزاياها التي تجعل من تين جبال سكيكدة الأجود، تبقى عائلية وتمارس بشكل تقليدي، وهي بحاجة لتطوير واستغلال وفق نظرة متكاملة تبدأ بالعناية بالشجرة وتنتهي بالصناعات الغذائية، لأن ميزة الإنتاج أنه «بيو»، لكنه عرضة للكثير من العوامل التي تأتي على جزء منه، كالأمراض والتقلبات المناخية وضعف التحكم في التقنيات الزراعية الحديثة.
و عرف إنتاج « الكرموص» أو «الكرطوس» بولاية سكيكدة، هذا الموسم، تراجعا أوعزه مزارعون إلى عدة عوامل، على ٍرأسها الظروف المناخية وأخرى تتعلق بأمراض يجهلون طبيعتها، فتكت بالأشجار، لاسيما على مستوى منطقة لعوينات ببلدية خناق مايون في الجهة الغربية للولاية، التي تصنف بكونها أشهر منطقة في إنتاج هذه الشعبة وهذا ما ترجم ارتفاع أسعار هذه الفاكهة اللذيذة في الأسواق المحلية التي تراوحت بين 250 إلى 600 دج، حسب الصنف والنوعية وهي مرشحة للارتفاع مع اقتراب انتهاء حملة الجني مع بداية سبتمبر.
«الشتيوي» و «الخظري» و«السلطان المعسل»
ولتسليط الضوء على هذه الشعبة الفلاحية التي تكثر زراعتها في المناطق الجبلية، تنقلت النصر إلى منطقة العوينات بأقصى الجهة الغربية للولاية، باعتبار أنها رائدة في إنتاج هذه الفاكهة على مستوى الولاية وقبل وصولنا إلى الوجهة المقصودة، صادفنا في طريقنا شبابا وأطفالا على قارعة الطريق يعرضون هذه الفاكهة للبيع، فيما تتراءى من بعيد أشجار التين تزين المنازل، ففي هذه المنطقة لا يكاد بيت يخلو من زراعة هذه الفاكهة في الفناء أو المساحات الشاغرة واعتبرها السكان بمثابة ثقافة ومن العادات المتجذرة التي ورثوها عن الآباء والأجداد.
بعد وصولنا إلى المنطقة استفسرنا بعض الشيوخ والشباب عن المواقع التي تنتشر فيها زراعة التين، فأرشدونا إلى بعض العائلات المشهورة التي تمتلك بساتين صغيرة في مساحات شاغرة بالمنازل، حيث التقينا، برشيد بوالشرش، الذي يملك بستانا صغيرا ورثه عن الآباء والأجداد، حيث رحب بنا رفقة مواطنين يملكون هم أيضا بساتين مماثلة، فدخلنا منزل المسمى، نورالدين، وهو عبارة عن «فيلا» في طور الإنجاز وفي بداية الأمر، لم يتبادر إلى الذهن إطلاقا أنه يملك بستانا، لكن بولوجنا إلى الداخل، ظهرت لنا عشرات أشجار التين تحيط بالمنزل من الجهة الخلفية.
وأكد لنا، كمال بوالشرش، بصفته مهندسا زراعيا ونائب رئيس الجمعية الوطنية للمهندسين الزراعيين ومستثمر في المجال الفلاحي، كما أنه يعد من أبناء المنطقة، أن فاكهة التين إرث ضارب في التاريخ وثروة تنتظر التثمين وتحتل هذه الشجرة مكانة خاصة في وجدان سكان ولاية سكيكدة، فهي حاضرة في كل القرى والبلدات، بل وحتى في الأحياء الحضرية، حيث تجد بعض سكان العمارات يزرعونها في المساحات المجاورة لمنازلهم، معتبرا هذا الانتشار الواسع لشجرة التين، يعود لعوامل عديدة، أبرزها قدسية هذه الشجرة التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم وأقسم بها قبل شجرة الزيتون المباركة، فضلًا عن كونها من فواكه الجنة التي تؤكل كاملة دون أن يُرمى منها شيء.
ويعود تاريخ وجود شجرة التين في سكيكدة حسب المتحدث، إلى سنوات بعيدة يصعب تحديدها بدقة وقد ارتبطت بالمناطق الجبلية شرقًا وغربًا وجنوبًا، حيث شكلت غذاءً أساسيًا للسكان، تُستهلك طازجة في موسم الجني، أو مجففة لفصل الشتاء، تُقدَّم صباحًا مع زيت الزيتون ودقيق الشعير المحمّص، حيث يؤكد المختصون، يضيف المتحدث، أن تناول التين يعادل غذائيًا تناول أربعين نوعًا من الفواكه، لما يحتويه من فوائد عظيمة.
كما أن الولاية، حسبه، تزخر بتنوع كبير في الأصناف، منها «الشتيوي» المنتشر في تمالوس ووادي بيبي وبلدية فلفلة، و»الخطري» أو «الخضري» كما يعرف في فلسطين ويكثر في بلديات دائرة الزيتونة وأولاد عطية. أما بلديات المصيف القلي، فتشتهر بعدد كبير من الأصناف، يتصدرها صنف «السلطان المعسّل» المميز بطعمه وقيمته التجارية.
وأضاف المتحدث أنه ورغم هذه الثروة الطبيعية، يكتفي كثير من المزارعين بغرس الأشجار وسقيها في سنتها الأولى، دون متابعة أو عناية لاحقة، ما يحرمهم من مردود أكبر وجودة أفضل، مشيرا إلى أن خبراء الزراعة يؤكدون أنه من أهم العمليات الضرورية لتحسين الإنتاج: التقليم المنتظم ووضع «الذكار» أواخر شهر ماي، مع مكافحة ذبابة التين بوسائل بيولوجية في بداية شهر جويلية.
زراعـة بيولوجية وغياب الأرقام حول الإنتاج
وبخصوص الإنتاج، أكد السيد، بوالشرش، أن إنتاج فاكهة التين في سكيكدة وفير إلى درجة يصعب حصر كمياته لغياب المتابعة الإحصائية الدقيقة من قبل المصالح الفلاحية ومع ذلك، فإن هذه الفاكهة تمثل ثروة واعدة يمكن تثمينها عبر تطوير أساليب الإنتاج والتسويق وتحويلها إلى منتوج غذائي واستراتيجي يعكس غنى الأرض وكرم الطبيعة في هذه الولاية، خاصة وأن التين كان خلال ثورة التحرير، مثل ما ذكر المتحدث، يصنف بكونه غذاء أو منتوج استراتيجي لا يقل أهمية عن القمح والشعير، لأنه غني بالسعرات الحرارية، فيكفي أن تأكل 6 أو 7 حبات لتحس بالشبع ويمكنك الصبر لمدة طويلة ولا تحس بالجوع، كما أنه يمتاز بخاصية أنه يؤكل بقشوره ولا يرمى منه أي شيء، خلافا لبقية الفواكه، قائلا بأن المزارعين في منطقة العوينات لا يستعملون أي أسمدة أو أدوية، فالمنتوج طبيعي بيولوجي 100/100 يمكنك أن تأكله مباشرة بعد قطفه من الشجرة، دون أن تغسله ولا تخشى أي تبعات صحية لأن الأرض نقية.
وبخصوص تفسيره لتراجع الإنتاج هذه السنة، أكد المتحدث أن السبب يعود إلى ظهور أمراض ألحقت ضررا بالثمار وفتكت بالأشجار والناجمة أساسا عن الضباب والصقيع وكذا ارتفاع وانخفاض درجة الحرارة، ما يؤدي إلى سقوط الثمار، لكن للأسف المزارعين يجهلون أو بالأحرى ليس لديهم وعي بكيفية الاعتناء ومتابعة الشجرة أو بحرق الثمار المتساقطة لتفادي انتقال المرض عن طريق الذباب إلى الثمار الناضجة أو غير الناضجة وأيضا جهلهم للطرق التقنية في عملية تكاثر التين وعلى وجه الخصوص استعمال الذكار ( الثمرة الذكر) في التلقيح، لأن هناك ثمار خنثى تلقح نفسها بنفسها، بينما الثمار الأنثى تتطلب تلقيحا من الذكار، لأنه عندما يتم التغافل أو عدم إتباع هذه الطرق التقنية تؤدي في الغالب إلى سقوط الثمار وفسادها وبالتالي تراجع الإنتاج وعليه فإن التلقيح عملية مهمة وضرورية في الحفاظ على جودة الثمار والزيادة في الإنتاج.
وتبقى مدينة العوينات ببلدية اخناق مايون، نموذجًا حيًّا لهذا العطاء، إذ تخرج مع بداية الموسم أولى ثمار التين بأصناف متعددة ونكهات لا تُضاهى، ما يجعلها رائدة في الجودة والإنتاج غرب ولاية سكيكدة ومتفوّقة على العديد من القرى والبلديات المجاورة، إنها بحق مملكة التين، حيث يلتقي عبق الأرض بمهارة المزارعين ليُقدَّم للناس طعمًا من الجنة وتستهلك العائلات بهذه المنطقة التين بدرجة كبيرة، بينما الكمية الزائدة تعمد لتجفيفها واستهلاكها في فصل الشتاء.
التجفيف.. مصدر رزق وفخر
وتقوم العائلات بمنطقة العوينات، بعد الاكتفاء من استهلاك التين الطازج، بتجفيف الكمية الزائدة منه وهنا تدخل صاحب المنزل ليشرح الطريقة التي يتبعونها في عملية التجفيف والتي ورثوها عن الآباء والأجداد منذ القدم والتي تعتمد في مرحلتها الأولى على عملية جني الثمار من الشجرة، ثم فتحها وتشريحها وعرضها فوق صفائح من الفلين لتجفيفها من المياه، لأن مادة الفلين تحافظ مثلما قال على جودة التين على عكس صفائح القصدير التي تتسبب في احتراق الثمار وبعدها تأتي عملية تفويرها فوق القدر وفي المرحلة الثالثة يتم مزج التين المجفف بزيت الزيتون وتخزينه لفصل الشتاء وهنا تدخل المهندس الزراعي، كمال بوالشرش، بالقول أن عملية التخزين لا بد أن تكون في أكياس من القماش التي تساعد على التهوية وبالتالي الحفاظ على جودة التين المجفف لقرابة سنتين بخلاف الأكياس البلاستكية تؤدي إلى تعفن المنتوج.
أما عن الأسعار، فيتم بيع جزء من الكمية المدخرة بين 1000 و1200 دج وهناك زبائن يأتون من عدة ولايات نظرا لجودة المنتوج كونه طبيعي خال من أي مضافات، مشيرا إلى أن صنف السلطان غير معني بالتجفيف، بخلاف بقية الأصناف الأخرى حيث يزيد عددها عن 15 صنفا، منها مبكرة وأخرى تنضج في شهر أوت.
أما المسمى، رشيد، فقد تنقلنا رفقته إلى منزله حيث يملك بستانا صغيرا ورثه، مثلما قال، عن الآباء والأجداد، إذ به قرابة 200 شجرة غالبيتها من صنف بوحلوف وهناك شجرة يفوق عمرها 50 سنة، قال بأنه كان يجني منها قنطارين، لكن في السنوات الأخيرة تراجعت مردوديتها بسبب الأمراض، مضيفا أنه يعتمد على صفائح الفلين في تجفيف التين، لأنها الأنسب للمحافظة على جودته، مشيرا إلى أن منتوجه وصل إلى غاية ألمانيا وسويسرا وأعجب المغتربين كثيرا بذوقه وفي كل مرة يصرون على اقتنائه.
وأجمع المزارعون، على أن شعبة التين بالمنطقة تقتضي التفاتة من السلطات، خاصة وأن رغبتهم كبيرة في توسيع زراعته وطالبوا من المصالح الفلاحية، إرسال فرق لتشخيص المرض الذي أصاب الأشجار وتوفير الأسمدة الخاصة بمعالجتها، كما اقترحوا إقامة عيد سنوي للتعريف بالمنتوج وتسويقه وكذا الترويج للجانب السياحي، خاصة وأن المنطقة تحتل موقعا استراتيجيا هاما.
ك.و