دعا أساتذة وباحثون إلى استحضار عظمة نعمة الماء وارتباطها بالدين والدنيا ودعوا إلى المحافظة عليه وترشيد استهلاكه وتنظيم قواعد توزيعه بما يحقق مقاصد الشريعة ويضمن الأمن المائي والتعايش السلمي، وعلى هامش ملتقى وطني عقد منتصف الأسبوع بجامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة .
للماء مكانة عظيمة في التصور الإسلامي

عندما نتتبع نصوص الوحي المتعلقة بالماء نستخلص أن الماء كنز ثمين في التصور الإسلامي، أوصت الشريعة بتحصيله والمحافظة عليه طاهرا نقيا، وذلك من خلال:
(أولا) الماء مخلوق تم تشريفه: يعلم جميع الناس أن الماء موجود بين السماء والأرض، لكن الذي لا ينتبه إليه الكثيرون أن الماء كان موجودا قبل خلق السموات والأرض، ومما يدل على تشريف القرآن للماء أننا نجده في آيات منه مقترنا بعرش الرحمن، كما قال تعالى:((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)) هود:7. (ثانيا) الماء نعمة عظيمة تقوم عليه الحياة،فالله هو الذي أنزله عذبا ليشرب منه خلقه، قال تعالى: ((أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ)) [الواقعة: 68‑70]، وتبعا لذلك فلا يحق لأحد أن يحرم منه غيره، ولا يؤخذ عليه أجر ما لم يكن هناك إنفاق على استخراجه أو إيصاله، فلا يحرم من كان في المنبع من كان في المصب.
(ثالثا)-للماء مكانة عظيمة في شرائع الإسلام: فمن خلال ما خطه الفقهاء في أبواب الطهارة، وما ورد من نصوص تأمر باستعمال الماء، وأن الله يحب المتطهرين؛ نستخلص أن الإسلام قائم فيما هو قائم عليه على الماء، ولا يتصور وجود مسلمين بعيدين عن الماء الطاهر المطهر (خامسا) الماء من مقاصد الشريعة بالتبعية التي يجب حفظها: فالماء من الأمور التي يتوقف عليها استمرار هذه المقاصد، فتوفيره لا يختلف في وجوبه عن وجوب حفظ تلك المقاصد، فلا تحفظ النفوس إلا بالماء، ولا تتم الطهارة لحفظ الدين إلا بالماء، ولذلك فإن حفظ الماء توفيرا واقتصادا هو من مقاصد الشريعة بالتبعية، وقد ورد في السنة المطهرة العديد من النصوص الداعية إلى إيجاد الماء وتوفيره. فجاء النهي عن الإسراف في استعمال الماء والنهي عن تلويث الماء، وسقي الماء من أفضل الصدقات، والدعوة إلى توفير مصادر للمياه.
حق الدولة في تملُّك الموارد العامَّة للمياه
من أبرز المبادئ التي عُنيت الشَّريعة الإسلاميّة ببيانها وتكريسها هو مبدأ الملكية للأشياء، سواءً كانت هذه الملكيَّة عامّة أو خاصّة أي فرديّة، وقد ذكر فقهاء الإسلام أن الماء من حيث طبيعة تملكه ينقسم في العموم إلى أنواع ثلاثة وهي:
(أولها)-المياه التي تمَّ إحرازها في آنية أو خزّانات أو صهاريج أو برك أو نحوها، فهذه تعتبر ملكيَّة خاصّة فرديّة، وعليه فيجوز بيعها، وتملّكها، ومنع سائر الخلق عنها، فهذا النوّع من المياه مملوك لصاحبه، ولا حقّ لأحد فيه إلّا بإذنه؛ وذلك لأنَّ الماء المحرز هنا من أصل مباح، فما أحرز من المباح وقعت فيه الملكية الخاصة وجاز تملُّكه.ويدخل في هذا الباب المياه الموصولة إلى البيوت والدّور عبر شبكات الأنابيب، والتي يدفع أصحابها والمستفيدون منها فواتيرها للمؤسسات والشّركات المسيّرة، فهذه من باب الملكية الخاصَّة للأفراد التي لا يجوز الاعتداء عليها إلا بإذن أصحابها، والتي يجوز بيعها والانتفاع بأثمانها كيفما شاء الإنسان، ومن ذلك أيضا المصانع التي تقوم بإعداد وتوفير المياه المعدنية والاتّجار بها، فهذه كلها من المياه المحرزة التي لا يجوز الاعتداء عليها، ويجب الضّمان على كل متعدٍّ عليها. 
(ثانيها)- ماء المجاري العامّة غير المملوكة لأحد، كمياه البحار والأنهار والقنوات العظام وسيول الأمطار في الأودية وغيرها، فهذه المجاري وأمثالها مياهٌ مباحة يستوي الناس فيها ويشتركون في استغلالها، وتعدُّ مرفقا عامًّا يثبت فيه لجميع الناس حق الشّفة والشُّرب، فهم مشتركون فيها شركة إباحة، ينتفعون بها انتفاعهم بالشَّمس والهواء، ويشترط في انتفاع الأفراد بهذا الماء ألَّا يكون مُضرّا بالعامّة،وهذا النَّوع من المياه هو المراد بقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنَّار»
(ثالثها)-المياه التي تمّ استخراجها من أراض مملوكة لأصحابها، كالآبار التي يتم حفرها في أرض هي ملك لصاحبها، أو حوض مائي تمَّ إنشاؤه فيها أيضا، أو عين مستنبطة وغيرها، فهذا النَّوع من المياه وقع الخلاف بين الفقهاء في صحَّة ملكيَّته، ومن ثمَّة جواز بيعه والتصرُّف فيه على أقوال عدَّة مظانّها في كتب الفقه
والذي يهمنا هنا في هذا المقام هو بيان المياه التي تكون ملكا للدَّولة باعتبارها موردا عامًّا لا يجوز لأحد تملُّكه واستغلاله دون الآخرين، وبالنَّظر إلى أقسام المياه الثّلاثة السَّابقة يتَّضح لنا أنَّ للدَّولة علاقة بقسمين من الأقسام السَّابقة، وهما القسم الأوَّل والقسم الثّاني:
حيث إنَّ المياه التي يتمّ تجميعها في السدود، ثمَّ القيام على معالجتها وتهيئتها ومن ثمَّ صرفها وتزويد السُّكان بها، والإشراف عليها عن طريق إدارة الموارد المائيَّة، فلا شكّ أنَّ هذا النَّوع من المياه يندرج ضمن القسم الأوَّل وهو المياه المحرزة، حيث تمَّ إحرازها من طرف الدَّولة، ويتم تسييرها من طرق إدارة خاصَّة تُعنى بتسيير الموارد المائيَّة، وعليه فيجوز لها بيعها وجعلها كمورد اقتصادي، كما لا يجوز للأفراد استغلالها دون ترخيص من الإدارة الوصيَّة على ذلك، وأي خرق في ذلك الاستغلال يُعرّض صاحبه للمساءلة الجزائية بموجب قانون المياه رقم (05-12) المؤرخ في: 4 غشت 2005م
أمَّا بالنّسبة للقسم الثّاني المتعلّق بمياه المجاري العامّة، كمياه البحار والأنهار والقنوات العظام وسيول الأمطار في الأودية وغيرها، فهذه ليست ملكيَّة لأحد، وإنَّما هي من قبيل الملك العام، إلا أنَّ الدَّولة تضع يدها عليها من باب التَّسيير والتَّنظيم، كما أنَّها تضع المراسيم واللوائح المنظمة لطريقة الانتفاع الفردي لها، وتمنع أي شكل من إشكال الاحتكار والاستغلال لهذه المياه الذي يعود على الغير بالضَّرر، فالإسلام أخرج من نطاق الملكية الفردية الأشياء التي لا يتوقف وجودها أو الانتفاع بها على مجهود خاصٍّ، وتكون ضروريّة لجميع الناس، حيث أوجب أن تكون ملكيتها جماعية حتى لا يستبد بها فرد أو جماعة فيضار المجتمع من جراء ذلك، وهذا هو الذي نص عليه التَّشريع الجزائري في قانون المياه (05-12)، وقد اتبعت الفقه الإسلامي آليات وأساليب عامَّة لترشيد استهلاك المياه منها: الحث على عدم الإسراف في استعمال الماء، والإقرار بمبدأ طهارة الماء. والمحافظة على مصادر المياه من التَّلوُّث، وعدم الشُّرب من أفواه الأسقية، وعدم التنفس في الماء، والأمر بتغطية الأواني التي تحمل السَّوائل، والنَّهي عن إلقاء الفضلات البشرية في الموارد المائية، واستخدام المياه وفقا للأولويَّات.
كتب النوازل الفقهية مصدر في تنظيم توزيع الماء
إن المتتبع لكتب النوازل خاصة، يلاحظ كثرة المسائل والنوازل الفقهية المتعلقة بالمياه والمشاحة حولها، وكيف استطاع فقهاؤنا بفتاويهم اجتهاداتهم، حل مختلف حالات النزاع حولها، وكيفية استغلالها. فتشكلت بذلك ثقافة مائية متميزة قائمة بذاتها، ظهرت في كتب متخصصة ككتب الفلاحة أو الريافة، وفقه العمران، وكذا الوثائق، إذ تمثل كتب النوازل المصدر الأساسي للتعرف على أحوال الري بالغرب الإسلامي، وكل ما يحيط بنظام السقي من تقنيات ونزاعات وتشريعات، والمعلومات المتوفرة في هذا الشأن، تعكس بالأساس منازعات وخصومات بين أفراد وجماعات بشأن الماء، سواء تعلق الأمر بمياه الشرب أو بمياه السقي. وهي خصومات حكم فيها الفقهاء وأفتوا في نوازلها من زاوية شرعية، تعتمد على ما يضيفه أهل الخبرة والمعرفة. وهي في هذا لا تكاد تختلف عن نوازل الأرض لما تثيره من قضايا تتعلق بالملكية الفردية والجماعية، ولما تبرزه من أضرار تلحق بأصحابها من جراء الغصب والتعدي، وتداول حقوقها بالبيع والشراء والسلف والكراء. فقد أفتى فقهاء المالكية في الكثير من المسائل التي تهم الخلاف بين الناس في الماء، فأمكن بفضل تلك الفتاوى وضع قواعد منظمة للاستخدام بما يضمن مصلحة الجميع. وكان لفقهاء المالكية دور في تنظيم استخدام المياه من خلال النوازل الفقهية التي أوردها، والحلول التي قدمها للمشاكل التي قد تحدث نتيجة النزاع على الماء. فكتب النوازل ليست ذخيرة فقهية فحسب، بل هي سجل شامل لكل مناحي الحياة حيث يجد الباحث فيها مبتغاه مهما تعددت أغراض بحثه حيث تمده بمعلومات قلما يجدها في غيرها من المظان الأخرى.
وبتتبع تطور الأحكام المتناثرة في هذه الكتب، نجد الفقهاء وخبراء المياه يجمعونها في أبواب وأجزاء متكاملة تعكس مدى ما وصلت إليه هذه الأحكام، وما وصل إليه المسلمون من تقدم في حل إشكالات المياه ونوازلها. وقد ساعد ضعف التأطير الفقهي بالبوادي وبعدها عن وجود الفقهاء، على الركون إلى العادة والأعراف الجارية في تقنين تداول ملكية الماء وحيازته.
لقد أمكن من خلال هذا التراث التوصل إلى تكوين فكرة عن كيفية الانتفاع بمياه السواقي وكيفية حفرها وتنظيفها كذلك طرق الانتفاع بفضل الماء أو ما يزيد عن الحاجة، وشروط هذا الانتفاع، وتنظيم الري وحطم المياه الهابطة من الوديان وإمكانية تغيير مجاري السواقي ومياه الآبار، وحكم الشرب منها، وسقي الثمار والخضر، وحكم الاستفادة من المياه في تشغيل الأرحاء، وغيرها من المواضيع الكثيرة المهمة.
قد شملت النوازل العديد من الموضوعات المتعلقة بالموارد المائية بمختلف أنواعها، وتشكلت هذه النوازل بسبب المشاكل والنزاعات التي كانت تثار حول هذا العنصر من حيث الاستفادة منه وتنظيمه وكيفية استغلاله.
حفظ الماء في الإسلام مرتبط بمقصد حفظ النفس
إنّ الحفاظ على الماء وحمايته من أوجه التبذير والضياع والاستغلال هو ما يحقق مقصد حفظ النّفس، وقد اهتم الفقه الإسلامي بكل ما يحمي هذا المقصد من جانبي الوجود والعدم كما سبقت الإشارة، وفي الآتي أقف على أوجه الحفاظ على الماء في الفقه الإسلامي:
إقرار مبدأ طهارة الماء وإقرار مبدأ كفاية المرة الواحدة في الطهارة: وإقرار مبدأ التطهير بالبديل وإقرار مبدأ صلاحية الماء بعد التنقية والتحلية وإقرار مبدأ تحريم تلويث الماء وإهداره: وإقرار مبدأ الشراكة في الماء.يظهر الترابط بين حق التّمتع بالماء ومقصد حفظ النّفس من خلال كون الماء أحد عناصر تركيب الإنسان:إنّ الماء عنصر من عناصر تركيب الإنسان، حيث وردت عدّة نصوص شرعية تبيّن هذا المعنى وكونه يحقق مصالح النّاس: من حيث الشرب والطبخ والغسل والتبرد وغيرها، وتوفره يجنب الصراعات والحروب حول تملك مصادر العيش: فأكثر الصراعات والحروب في العالم عبر العصور كانت من أجل تملك مصادر العيش، والتي على رأسها الماء، كونه مصدر الزراعة والصناعة والأكل والشرب وغيرها، حيث كانت تتشكل الحضارات بناءً على أماكن تجمع المياه
ولذلك توجب على الجميع الحفاظ على مصادر الماء، والعمل على حمايتها من التخريب والإسراف، من جانبي الوجود والعدم:أمّا الحفاظ على الماء من جانب الوجود، ما يثبت أصله وينمِّيه، ويدخل في ذلك ما تقوم به الدولة من استخراج الماء وتجميعه وتخزينه في السدود والحواجز المائية، وتنقيته، وإيصاله للنّاس، وكذا تحلية مياه البحر، ومعالجة مياه الصرف الصحي، وحفر الآبار وغيرها ...وأمّا الحفاظ على الماء من جانب العدم، فيقصد به ما يدرأ عنه الاختلال الواقع، أو المتوقع فيه، ويدخل فيه كذلك مسؤولية النّاس في المجتمع، من حيث النهي عن تلويثه، وترشيد استخدامه، وعدم الإسراف فيه، وهو ما تدعمه نصوص كثيرة من الكتاب والسنة.