انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا، حملات لتنظيف المقابر، لكن ما يتم ترويجه عبر مختلف المنصات عن هذه العمليات التي تعد جزءا من العمل التشاركي، حولها إلى أداة لنشر الشك والحيرة وحتى الخوف لدى البعض، بعد أن تم حصر مغزاها في التنقيب عن أعمال سحر، حيث تم تداول صور و مقاطع مصورة و»لايفات» من مقابر بمختلف جهات الوطن عن العثور على أعمال شعوذة و طلاسم وصور أشخاص، ما خلف جدلا وحول الأمر إلى موضوع نقاش على مواقع التواصل، فيما يحذر مختصون نفسانيون من تأثير الترويج لفكرة أن السحر سبب كل الاخفاقات والاضطرابات والمتاعب الحياتية والصحية التي تصيب الأفراد و العائلات، مؤكدين أن الثقافة الصحية النفسية مهمة لتجاوز مثل هذه الفخاخ.
جاء التفاعل مكثفا مع حملات تنظيف المقابر، وشارك مستخدمون صورا أُخذت من مقاطع فيديو ظهرت فيها أعمال شعوذة تشمل أعضاء حيوانات، وقطع ملابس، وصورا لمجهولين، كما ظهرت أغراض بعضها يعود لأطفال، وتداول مستخدمون قصصا عن الأذية باستخدام السحر، وحاولوا نشر الصور على أوسع نطاق بغرض التوعية كما علقوا.
حملات تنظيف المقابر تتحول إلى تنقيب عن «التمائم»
وفي إطار الترند شارك أشخاص تجاربهم مع هذا العالم الغيبي، وركزت أحاديثهم على ما يواجهونه من مشاكل مثل انقلاب حياتهم رأسا على عقب، ناهيك عن معاناتهم من بعض الحالات النفسية غير المستقرة مثل التقلبات المزاجية، واضطرابات الشخصية، زيادة على سرد قصص عن مشاكل عائلية، و التعرض لأمراض صحية خطيرة مثل السرطان الذي تكرر ذكره في عديد التعليقات والمنشورات.
وخلفت المنشورات جدلا واسعا بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي وانقسمت الآراء بين من نفى هذه الممارسات واعتبرها ضربا من الجهل، فيما ربطها آخرون بحالة الاستسلام للفراغ التي يعاني منها قطاع من أفراد المجتمع.
فئة أخرى فسرتها على أنها حلول ظاهرية يضعها أفراد هروبا من واقعهم الصعب وحجج لحالات الفشل التي يعانون منها، كما رآها غيرهم مجرد تبرير للتهاون وعدم القدرة على تغيير الواقع وتقبل فكرة أن هناك من يحقق النجاح ويستطيع ضمان التوازن في حياته بينما يتخبط هؤلاء في مستنقع الخيبة.
واعتبر مختصون في علم النفس، شاركوا منشورات على مواقع التواصل بأن الترند الحالي ذو انعكاسات سلبية على الناس، لأنه يكرس بعض الأفكار الخاطئة و يشجع على الهروب من الحقيقة ويدخل الفرد في دوامة من التبريرات غير المنطقية ويفقده الثقة في النفس والإيمان،وذلك بحسب ما ذهب إليه الأخصائي النفساني العيادي مليك دريد، داعيا إلى التحلي بثقافة صحية نفسية، و محاولة البحث عن حلول حقيقية للمشاكل بما في ذلك الصحية، لأن هناك أعراضا قد تبدو غريبة لكنها في الحقيقة ترتبط بأمراض عضوية يمكن للمختصين تشخيصها.
من جهتها، قالت الأخصائية النفسانية، هالة غلاش، إن معظم الاضطرابات سواء كانت جسدية أو نفسية لها تفسير علمي يجب الأخذ به بعيدا عن المعتقدات المجتمعية القديمة، وهو ما يتوجب على الناس فهمه.
الترويج يؤزم المضطربين ويؤثر على الأسوياء
وأوضحت الأخصائية، أنه لا يمكن إنكار وجود السحر خصوصا أن هذا الفعل مذكور في القرآن الكريم لدى المجتمعات المسلمة، لكنه يتحول إلى مشكلة حقيقية عندما يصبح تفسيرا مباشرا لكل سلوك غير سوي، أو غير مقبول اجتماعيا، وهنا تتدخل الأفكار المتوارثة حسبها، لتؤزم الوضع أكثر وتضاعف المشكلة بدل حلها.
تضيف غلاش، أنهم كأخصائيين نفسانيين يقفون أيضا أمام تفسيرات خاطئة لبعض الاضطرابات والأمراض العقلية وربطها بالماورائيات، وذكرت على سبيل المثال اضطراب «الفصام» الذي تظهر على المصاب به أعراض من قبيل الهلاوس البصرية، والسمعية، والشمية، والحسية، فيبدو الشخص وكأنه يتكلم مع أشخاص غير مرئيين ويعيش قصصا معهم بسبب إدراكه المشوه للواقع.
وأعقبت، أن الأغلبية في المجتمع ُتفسر هذه التصرفات الغريبة على أنها تعامل مع الجن والشياطين، بينما يفسرها العلم على أنها هذيان نابع من خلل في كيمياء المخ.
وتحدثت أيضا، عن الجيل الجديد الذي تأثر بهذه الأفكار بالرغم من أنه يعاصر التطور العلمي والتكنولوجي، غير أنه لم يستطع التخلص من بعض الأوهام والتصورات النمطية المتوارثة، وتأثير تفكير الأغلبية عليه. وأكدت الأخصائية، أن أغلب السلوكيات والتصرفات نابعة من اضطرابات ومشاكل نفسية، أو عقلية، أو عائلية، مشيرة إلى أن العلاج الأنسب لها إما دوائي، أو بالرجوع إلى الطب النفسي حتى تستقر الحالة ويعود السلوك إلى حالته الطبيعية، مع تفادي الإصابة بمشاكل كبيرة مثل الذهان.
موضحة، أن نقص الوعي لدى بعض الأشخاص وإهمال صحتهم النفسية يجعلهم يعتقدون أن الحل يكمن في اللجوء إلى الرقاة والطرق التقليدية حتى وإن كان للسلوك تفسير علمي وطبي واضح.
وحذرت الأخصائية النفسانية، من التعرض المفرط لهذه «الترندات» على مواقع التواصل الاجتماعي مثلما يحصل في الوقت الحالي، خصوصا في ظل انتشار الحديث عن مبادرات تنظيف المقابر، وقالت إن الضجة تزيد من القلق، والخوف، وأعراض الانعزال، ناهيك عن السلوكيات غير السوية لدى المضطرب نفسيا، أما إذا كان الشخص يعاني من صدمة فإن وضعه سيتأزم.
وقد يتعدى الأمر حسبها، إلى الأشخاص الأسوياء أيضا، خصوصا الذين يتعرفون على هذا العالم الغريب لأول مرة من مواقع التواصل الاجتماعي، مما يشكل صدمة لديهم، فعوض أن يكون الخوف طبيعيا تتضاعف شدته وتتفجر أمراض «سيكوسوماتية» لمجرد تعرض الشخص لتلك الصور، التي قد تُسبب له ارتفاعا في ضغط الدم، أو نوبة سكري وتضر صحة القلب خصوصا في حالة توفر العامل الوراثي.
تأخير العلاج النفسي يضاعف الاضطرابات المصاحبة
وذكرت الأخصائية، أن أغلب المشاكل الجسدية يكون سببها نفسيا، وهو ما يُعرف بالأمراض «النفسو جسدية»، التي تنتشر في الوقت الحالي بكثرة بين شرائح المجتمع، إذ تتزايد سنويا نسب الإصابة بضغط الدم والسكري، وحتى السرطان كما تشير إليه الإحصائيات.
وأرجعت غلاش، الأمر إلى الضغوطات والتراكمات، والمشاكل العائلية والاضطرابات النفسية التي لم تُعالج، أو تم التغافل عنها بسبب اللامبالاة بالصحة النفسية.وفي هذا السياق، تحدثت عن حالات وقفت عليها شخصيا،قالت إن وضعها تدهور بسبب التدخل العلاجي المتأخر، ما أدى إلى الإصابة باضطرابات مصاحبة، وأوضحت أن هذا التماطل صعب الحالة أكثر ويعقد من مهمة النفساني إذا تدخل خلال مراحل لاحقة من المرض، كما يجعل العلاج يأخذ وقتا أطول.
وتنصح الأخصائية النفسانية هالة غلاش، بالانتباه إلى جميع الجوانب الصحية والنفسية، وعدم التركيز على جانب واحد فقط، مؤكدة أن أغلب الاضطرابات والأمراض هي في الأصل نفسية وليست روحانية، وهي متعلقة أساسا بعدم القدرة على تسير الضغوطات والانفعالات.
إيناس كبير