.
برز مؤخرا، في مدينة قسنطينة، جيل جديد من المصوّرين الشباب الذين قرروا أن يمنحوا صورة المدينة بعدا عالميا، وأن يجعلوا من عدساتهم وسيلة لإحياء روح الجسور، والصخور، والأزقة، وعديد التفاصيل الأخرى التي تميز المكان، وذلك عن طريق ألبومات رقمية معدلة تقنيا تقدم صورة فاخرة عن سيرتا، وتروّج لها بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي.
عدسة شابة توثّق القصة من زاوية مختلفة
في زمن أصبحت فيه الصورة جزءاً أساسياً من يوميات الناس، ومع انتشار الهواتف الذكية وتطبيقات التصوير، يحاول هؤلاء الشباب الانفراد برؤية مختلفة عن مدينتهم التي يعتبرونها مسرحاً كبيراً مليئاً بقصص تنتظر من يرويها.
من بين المصورين الهواة المبدعين في هذا المجال، يبرز اسم زكريا عظمة، وناصر أمين خوجة المعروف باسم «Nacroverse»، إضافة إلى مصوّر شاب آخر استطاع أن يصل بعدسة هاتفه إلى منصة ناشيونال جيوغرافيك عربية، هو محمد العربي لعروق. ثلاث تجارب مختلفة، لكنها تلتقي جميعاً في نقطة واحدة تركز على جعل الصورة أداة تعبير بليغ.
يملك ناصر أمين خوجة عدسة مبدعة بدأت تشق طريقها بهدوء وثقة في عالم يعرف اهتماما متزايدا ويأخذ أبعادا سياحية وفنية متعددة، قال الشاب للنصر، بأن الصورة فكرة قبل أن تكون لقطة، وهذا المبدأ يظهر بوضوح في أعماله التي تحمل طابعاً سينمائياً يجعل المشاهد يشعر وكأنه أمام مشهد من فيلم وليست مجرد صورة جامدة.
الفكرة أولاً ثم العدسة
يعلق على عمله قائلا: «يمكن لأي شخص أن يقتنص لقطة جميلة، لكن الصورة الفنية تتطلب فكرا إخراجيا ورؤية فنية». تختصر هذه الجملة كل فلسفته في التصوير، فبالنسبة له لا يبحث المصوّر عن جمال جاهز، بل يرسم جمالاً من الفكرة.
يوضح وجهة نظره بهذا الخصوص:» قد يقف مصور دقائق طويلة في نفس المكان فقط لأنه يشعر أن هناك قصة تنتظر اللحظة المناسبة لتروى».
يسترسل : «لا يهم إن كانت الصورة قد التقطت بكاميرا أو بعدسة الهاتف المحمول، المهم هو أن يجيد المصور توثيق اللحظة و أن يكون قادرا على إيصال الفكرة، وقسنطينة مدينة سخية وتروي الكثير من القصص».
يضيف : «شخصيا لا يهمني نوع العتاد بقدر ما أركز على الجودة، قد أجد الهاتف أسرع لأنه يعطيني حرية الحركة، ويمكّنني من اقتناص اللحظة اللي تمرّ سريعا». بالنسبة للمصور الشاب، لا تكمن القيمة في العتاد، بل في العين التي ترى تفاصيل لا ينتبه إليها الآخرون.
يصف ناصر مدينته بطريقة لافتة قائلا: «أحس أن قسنطينة مشهد في فيلم سينمائي، يمكن أن يحتمل عددا لا ينتهي من السيناريوهات، حيث يمكن للمصور أن يروي أكثر من قصة عبر صورة واحدة، وذلك عن طريق تغيير الزواية فقط».
الجسور المعلّقة، والأزقة الضيقة، والصخر العتيق، والضباب الذي يعلو الوديان، كلها عناصر يتعامل معها ناصر كما يتعامل المخرج مع مشاهد فيلمه. ولذلك تظهر صوره وكأنها مأخوذة من لقطة سينمائية، فيها عمق وفيها إحساس. بين العفوية والتخطيط يقول: «لا تنتج الصورة الممتازة دائما عن تخطيط مسبق، فقد تولد أحيانا من رحم الصدفة أو الحظ».
أوضح لنا، أنه حين يعمل على مشروع كبير، يخطط لكل شيء: الإضاءة زاوية الكاميرا، نوع المشهد، وحتى المزاج اللوني. لكنه عندما يتجول في الشارع يترك اللحظة تقوده.
اللون جزء من الرسالة والمونتاج الروح الثانية للصورة
لا يستخدم ناصر اللون لمجرد التجميل، بل يعتبره جزءاً من الفكرة، فيميل إلى الظلال العميقة حين يكون الموضوع ثقيلاً، ويختار الألوان الهادئة حين تكون الفكرة رقيقة، والأسلوب السينمائي عندما يريد إحداث تأثير عاطفي. وقد جعله هذا الاهتمام باللون يكوّن بصمة بصرية يتعرّف عليها الجمهور بسهولة.
ويشبّه عملية المونتاج بالطبخ معلقا: «حتى لو امتلكت كل المكونات لن تحصل على طبق مثالي إلا على يد طباخ ماهر». و التركيب بالنسبة إليه ليس تلاعباً بالصورة، بل هو استكمال للعمل الفني لأنه يضيف العمق ويبرز التفاصيل، ويقوّي الشعور الذي يريد المصور إيصاله.
كما يوجه محدثنا رسالته للمصورين الشباب مفادها، أنه يتعين على كل عاشق لهذا الفن أن يضع أولى خطواته على الطريق معتمدا على ما توفر لديه من إمكانيات، وأن لا يبحث عن الكمال أو إرضاء الجميع، بقدر ما يجب عليه أن يركز على جمهوره الخاص، ويقول إنه لا عيب في التقليد في البدايات لأنها محطة يمر عليها كل باحث عن أسلوبه وشخصيته الفنية. وختم بالقول « نعيش في مدينة الأحلام أين ينام الناس على ضجيج الزحام و توقظهم صورنا على واقع أجمل».
زكريا عظمة .. عدسة تبحث عن الجمال المخفي
زكريا عظمة شاب من قسنطينة اختار أن يجعل من مدينته مصدر إلهام دائم، يرى أن المكان يتكلم وأن مهمة المصوّر هي أن يساعد الناس على سماع صوته، لذلك ينطلق من فكرة بسيطة تركز على أن الصورة ليست مجرد نقل لما تراه العين، بل طريقة جديدة لوصف المدينة.
لا يكتفي محدثنا، بالمناظر المشهورة بل يغوص في التفاصيل الصغيرة «جدار قديم، زاوية ضوء، طريق ضيق، أو جسر يظهر من مسافة بعيدة»، بهذه التفاصيل يبني صورة تحمل قصة، ويجعل المألوف يبدو جديدا.بالنسبة لزكريا، فإن الصورة لا تلتقط بعفوية بل تصنع كما يصنع أي عمل فني آخر، لذلك يشتغل كثيراً على اختيار اللحظة المناسبة والزاوية التي تمنح لها روحا.
تقنية الـDark Mood لقوة أكبر
يقول، إن ما يميز أعماله اعتماده على أسلوب Dark Mood، الذي يمنح الصورة طابعاً غامقاً يضيف لها عمقاً وقوة. هذا الأسلوب يساعده على تحويل أماكن بسيطة إلى مشاهد تحمل رهبة وجمالاً في نفس الوقت.
وبفضل شغفه واجتهاده استطاع أن يصنع هوية بصرية خاصة، وأصبح الكثيرون يتعرّفون على صوره من أول نظرة. وهو اليوم يواصل رحلته لاستكشاف أماكن جديدة وتقديم قسنطينة كما لم تُرَ من قبل.
عدسة هاتف قدمت صورا باهرة لناشيونال جيوغرافيك عربية
محمد العربي لعروق، شاب آخر من قسنطينة، اختار أن يعمل فقط بهاتف محمول، ورغم محدودية الإمكانيات استطاعت إحدى صوره أن تصل إلى حساب مجلة ناشيونال جيوغرافيك عربية، وهو إنجاز كبير بالنسبة لمصور هاوٍ كما قال للنصر.
صنعت الصورة الحدث وجمعت بين معالم من المدينة في لقطة واحدة «الجسور المعلّقة، الصخر العتيق، واد الرمال، والجسر الروماني» فكانت النتيجة عبارة عن مشهد لمدينة تتحدث عن نفسها وتغري العالم بجمالها. وقد دفعت هذه الصورة عدداً من المصورين حول العالم للتعرف على قسنطينة، بل وعبّر بعضهم عن رغبته في زيارتها.
الإمكانيات البسيطة ليست عائقاً
يقول محمد : «الكاميرا الجيدة تساعد على زيادة جودة الصورة، لكن العين هي من تلتقط الجمال الحقيقي». ويرى محدثنا، أن أكبر تحدٍ أمام المصوّرين الجزائريين هو غلاء المعدات وغياب الدعم، لكنه يصرّ على الاستمرار لأن الشغف أقوى من الظروف.
ويعتبر المصور، أن أفضل صوره كانت نتاج لحظات لم يخطط لها، وأن العفوية تمنح المشهد صدقاً يصعب تقليده حتى بالمعدات الاحترافية، وبحسبه فإن هناك جيلا يصنع هوية بصرية جديدة للمدينة رغم اختلاف الأساليب، لأن هؤلاء المبدعين الشباب يشتركون حسبه، في الإيمان العميق بأن الصورة قادرة على تغيير نظرة الناس إلى المكان.
ويقول، إنه فمن خلال أعمالهم أصبحت قسنطينة تُرى اليوم بعين جديدة كمدينة نابضة بالحياة ومليئة بالقصص، تجمع بين التاريخ والطبيعة وتملك جمالاً لا تميزه إلا عين الفنان.
ويضيف محدثنا، أن هذا الجيل من المصوّرين لا يعتمد على الدعاية أو المعدات المكلفة، بل على الشغف وعلى رغبة صادقة في تقديم مدينته بأجمل صورة ممكنة. وقد نجح بالفعل في لفت الانتباه داخل الجزائر وخارجها إلى جمال مدينة الصخر.
ويمكن القول حسبه، إن هؤلاء الشباب أعادوا للمدينة صوتها، فالصورة في نظره، ليست مجرد لحظة عابرة، بل شهادة على جمال كان ينتظر من يبرزه، ورسالة تذكّر الناس بأن المدن ليست حجارة فقط، وإنما هي تملك روحا تسعى عدساتهم لإيقاظها كي يراها كل العالم.
عبدالغاني بوالودنين