
تشكل فترة ما بعد الولادة منعطفا دقيقا في حياة الأم، مليئا بالتحوّلات العاطفية والجسدية التي تتطلب توازنا ورعاية، إذ تنتقل خلالها من تجربة الحمل بكل تفاصيلها إلى مسؤوليات الأمومة الجديدة، التي تصاحبها تغيّرات جسدية ونفسية كبيرة ومفاجئة.
وعلى الرغم من الصورة الشائعة التي تصور هذه الفترة على أنها مرحلة فرح وسعادة بقدوم المولود، فإن الواقع النفسي قد يكون مختلفا لدى العديد من الأمهات، اللواتي قد يواجهن اضطرابات مزاجية قد تتفاقم أحيانا لتصل إلى اكتئاب حاد.
مشاعر متشابكة منذ بداية الحمل
وفي هذا السياق، تؤكد الأخصائية النفسانية العيادية كاميليا حكوم، أنّ الحمل ليس مجرد تحول جسدي، بل تجربة نفسية متكاملة تمر خلالها المرأة بسلسلة من المشاعر المعقدة، موضحة أنه منذ اللحظة الأولى للحمل، تعيش المرأة تطوراته يوما بعد يوم بمزيج من الأحاسيس المتقلبة، وتتأثر جذريا بهذه التجربة التي تختلف شدتها من امرأة إلى أخرى ومن حمل لآخر، لكن تبقى هناك مشاعر مشتركة تعيشها أغلب الحوامل خصوصا قبل الولادة.
وتشرح الأخصائية، أنّ هذه المرحلة تحمل معها خليطا من السعادة والفرح والترقب، ولكن أيضا التوتر والقلق والخوف والإرهاق، وتُعدّ هذه المشاعر «طبيعية» كما تقول، لكن التغيرات البيولوجية العميقة التي تحدث داخل جسم المرأة تمثل أحد أهم العوامل التي قد تمهّد لظهور اكتئاب ما بعد الولادة.
عوامل شخصية واجتماعية تزيد من احتمالات الإصابة
وبالإضافة إلى الجانب البيولوجي، تشير حكوم، إلى وجود عوامل أخرى تضاعف إمكانية الإصابة بالاكتئاب، موضحة أن طبيعة شخصية المرأة نفسها، والضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها، ومسار الحمل والولادة كلها عناصر تلعب دورا رئيسيا، فكل امرأة لديها بنيتها النفسية وظروفها، وهو ما يجعل تجربتها مختلفة عن غيرها.
وأشارت، إلى أن بعض النساء يدخلن مرحلة الأمومة وهنّ مثقلات بمشاكل سابقة أو بقلق مزمن أو بنقص في الدعم العائلي، الأمر الذي يزيد من هشاشتهن خلال الأسابيع الأولى بعد الولادة.
وتابعت، أنه بعد وضع المولود سواء كانت الولادة طبيعية أو قيصرية، تنتقل الأم فجأة إلى عالم جديد تماما، حيث أنه في هذه المرحلة تشعر الأم بتغييرات ضخمة داخلها، حيث ينخفض هرمون البروجستيرون بشكل كبير، وتبدأ مرحلة الرضاعة المرهقة، إضافة إلى اضطرابات النوم والآلام الجسدية والمسؤوليات الجديدة، و كل هذه العناصر تؤثر مباشرة على حالتها المزاجية.
وشددت، أن الانفعال والعصبية والبكاء دون سبب واضح، والشعور بالرهبة من المسؤولية تجاه المولود، كلها مظاهر لا يجب الاستهانة بها، مؤكدة أنّ الدعم الأسري يلعب دورا محوريا في مساعدة الأم على تجاوز هذا الاضطراب الطبيعي. وتشرح الأخصائية، أنّ الأعراض العاطفية التي تظهر بعد الولادة غالبا ما تبدأ منذ اليوم الثالث أو الرابع، وقد تستمر إلى حدود اليوم العاشر، وتسمّى هذه الفترة بـ « اكتئاب ما بعد الولادة الخفيف». مشيرة إلى أن من 50 إلى 70 بالمائة من النساء يوجهن هذه الحالة، وهي شكل من أشكال الاكتئاب لكنه ليس خطيرا ولا يرتبط بضعف شخصية الأم، بل تعد نتيجة طبيعية للتغيرات البيولوجية والجسدية التي عاشتها، ويمكن التخلص منه بسهولة إذا تلقت دعما مناسبا.
خطر الدخول في مرحلة الذهان
غير أنّ الخطر الحقيقي يبدأ عندما تستمر الأعراض أكثر من عشرة أيام، وفي ذات السياق تقول حكوم، بأنه إذا امتد الاكتئاب لما بعد هذه المدة، فهنا تدخل المرأة فيما يسمى بذهان ما بعد الولادة، والأعراض لا تكون ثابتة وتتباين من امرأة لأخرى، وقد تتراوح بين حالات طفيفة وحالات شديدة تستوجب التدخل الطبي.
وأشارت، إلى أن هذه الأعراض قد تشمل، تقلبات حادة في المزاج قلق وتوتر مستمرين، حزن شديد وكآبة متواصلة، انفعال وعصبي، وبكاء متكرر دون سبب، بالإضافة إلى إرهاق دائم، وفقدان الشهية أو اضطرابها، ضعف التركيز، أفكار سلبية قد تصل إلى أفكار انتحارية، صعوبة في اتخاذ القرارات، شعور بوجود فراغ داخلي، وإحساس غريب بأن شيئا ما يبعدها عن طفلها، وصعوبة في التعلق بالمولود.
وتحذّر حكوم، من أنّ هذه المرحلة خطيرة لأن الأم قد تفقد قدرتها على التحكم في سلوكها، ما ينعكس سلبا على الرضيع الذي يتأثر بكل تفصيل.
العلاج والرياضة ضروريان لتجاوز الأضرار
وتؤكد، أنّ زيارة الأخصائي النفساني يعتبر ضروريا عند ظهور أعراض الذهان، مشيرة إلى أن العلاج يعتمد على مضادات الاكتئاب والعلاج النفسي، والهدف منه مقاومة الأفكار السلبية وتغيير نظرة الأم لنفسها ولسلوكها، حتى تتمكن من الاعتناء بطفلها بشكل سليم. مؤكدة أن الصحة النفسية للأم مرتبطة مباشرة بصحة الطفل، وتشدّد على أنّ التدخل المبكر يمكنه منع تطور الحالة إلى وضع أكثر تعقيدا.
وفي هذا الإطار، تضيف الأخصائية النفسانية كاميليا حكوم، أنّ ممارسة الرياضة تعدّ إحدى الأدوات المساندة والمهمة في تخفيف أعراض اكتئاب ما بعد الولادة. مشيرة إلى أن النشاط البدني ولو كان بسيطا مثل المشي الخفيف، يحفّز إفراز هرمونات السعادة كالإندورفين والسيروتونين، ما يساعد على تحسين المزاج وتقليل التوتر الذي يلازم كثيرا من الأمهات خلال الأسابيع الأولى.
كما تؤكد، أن الرياضة تساعد الأم على استعادة إحساسها بالتوازن الجسدي بعد فترة الحمل وما يرافقها من تغيرات هرمونية عميقة وتحسّن جودة النوم التي تتأثر بشكل كبير نتيجة السهر والرضاعة وهو ما ينعكس مباشرة على استقرارها النفسي. وتوضح حكوم، أن تمارين التمدد واليوغا الخفيفة أو حصص الرياضة المخصّصة لما بعد الولادة تعزّز أيضا ثقة المرأة بنفسها وتمنحها مساحة شخصية تخفّف من الضغط الذهني. وتضيف، أن الأنشطة الرياضية الجماعية تشكّل فرصة للتواصل الاجتماعي، وهو عنصر مهمّ يقلل من الشعور بالوحدة ويعزز الإحساس بالدعم. ومع ذلك تشدّد على ضرورة استشارة الطبيب قبل البدء بأي برنامج رياضي، خصوصا إذا كانت الولادة قيصرية أو رافقتها مضاعفات.
معتبرة، أن دمج الحركة ضمن الروتين اليومي يساعد على الوقاية من تطور الاضطراب وتحسين قدرة الأم على التكيّف مع مرحلة الأمومة بثقة وهدوء.
الوقاية تبدأ قبل الولادة والدعم الاجتماعي أساس التعافي
وترى الأخصائية النفسانية، أنّ التوعية هي السلاح الأهم في مواجهة اكتئاب ما بعد الولادة، مشيرة إلى أن الكثير من النساء يجهلن تماما ما هو اكتئاب ما بعد الولادة، بل إن بعضهن لم يسمعن به من قبل، وهنا تأتي أهمية التحضير النفسي قبل الولادة، عبر حصص توعية تقدَّم للحوامل لشرح ما قد يواجهنه بعد الوضع وكيفية التعامل مع مشاعرهن، وتقترح تقديم معلومات دقيقة للمرأة قبل الولادة حول التغيرات الهرمونية، والأعراض المحتملة، وكيفية طلب المساعدة في الوقت المناسب. وتشدد، على أنّ السند العائلي هو أقوى عامل في تجاوز هذه المرحلة، موضحة أنه على الزوج والأهل أن يدركوا أن ما يحدث للمرأة ليس تكبّرا أو عصبية زائدة، بل حالة مرضية تحتاج إلى تفهّم واحتواء، لأن تجاهل الأعراض قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة.وتدعو، العائلة إلى مراعاة مشاعر الأم، وتوفير بيئة هادئة لها، ومساعدتها في العناية بالطفل، ومرافقتها خلال الأيام الأولى التي تكون فيها أكثر هشاشة. وللمحافظة على الاستقرار النفسي للأم تنصح الأخصائية النفسانية كاميليا حكوم، بتجنب الضغوط النفسية قدر الإمكان، والابتعاد عن الأفكار السوداوية، واعتماد نظام غذائي غني بالفيتامينات، والحصول على فترات كافية من الراحة، فضلا عن طلب المساعدة وعدم مواجهة المرحلة وحدها. وتؤكد، أنّ هذه الاضطرابات هي حالة صحية يمكن علاجها مثل أي مرض آخر، وأن الاعتراف بها خطوة أولى نحو التعافي. سامية إخليف