الثلاثاء 19 أوت 2025 الموافق لـ 24 صفر 1447
Accueil Top Pub

أيـــة مســـــارات لتشكيــــل النّخبـــــة في الجــزائــــــر؟

ظلت الجامعات، لوقتٍ طويلٍ، بوابة تقليدية لتشكيل النُخب، خاصةً في المجالات الأكاديمية والسّياسيّة، وكثيرًا ما تأتي تساؤلات عن إمكانية وجود فضاءات أخرى غير الجامعة التي يمكن أن تأتي منها النُخب، فهل يمكن القول في مقابل هذا إنّه لا نخب خارج الجامعة والفضاء الأكاديمي؟ أم أنّ هناك نخبٌ تأتي من فضاءات الحياة الأخرى، والتجارب الأخرى بعيدًا عن الفضاء الجامعي/الأكاديمي.

أعدت الملف: نوّارة لحرش

وأنّ الجامعة لا تحتكر تخريج النخبة، أو بمعنى آخر ليست الفضاء الوحيد لتشكيلها. إذ أصبحت مسارات تكوين النُخب تتنوعُ في عصرنا الحالي. فقد ظهرت مساراتٌ جديدة تُتِيحُ الوصول إلى المكانة النخبوية. كما أنّ بروز النخبة مُرتبطٌ أيضًا بالنبوغ والإنجاز والاِبتكار والتميز في بعض مجالات الفن والفكر والأدب وغيرها من الفنون والتخصّصات، وليس بالشهادات العُليا فقط، فهي كما يقول الدكتور عبد السلام فيلالي «ليست المقياس». إذ نرى في كلّ العالم والمُجتمعات، الكثير من النُخب تظهر خارج الجامعة وفي مجالات مُختلفة مثل الفنون والسّياسة والاِقتصاد والصناعة وغيرها. وهذا ما يُؤكد أنّ مصادر تخريج النُخب متنوعة، والعديد منها تخرجت وظهرت من فضاءات أخرى خارج الجامعة والعمل الأكاديمي وفي مجالات مختلفة. وتألقت من خارج أسوار الجامعة وأثّرت في الوعي المجتمعي، كما ساهمت في تغيير تاريخ بلدانها وتاريخ مجتمعاتها. حول هذا الموضوع «فضاءاتٌ أخرى للنُخب»، كان ملف عدد اليوم من «كراس الثّقافة»، مع مجموعة من الدكاترة والباحثين الأكاديميين من مُختلف الجامعات الجزائرية.

* الباحث وأستاذ الأنثـروبولوجيا مبروك بوطقوقة
مُؤثرو وسائل التواصل الاِجتماعي بَرَزوا كنخبة جديدة
يقول الباحث الأكاديمي وأستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة باتنة، الدكتور مبروك بوطقوقة إن النخبة تمثّل «شريحة في المجتمع، تتميّزُ بقدرتها على التأثير في مختلف المجالات السّياسيّة والاِقتصاديّة والثّقافيّة. ويعود أصل المُصطلح إلى الكلمة اللاتينية eligere التي تعني (الاِختيار)، مِمَا يعكسُ طبيعتها كفئة مُتميزة في المُجتمع».
مُضيفًا أنّ التاريخ شهدَ أشكالاً مُتنوعة من النُخب، بدءاً من الأرستقراطية اليونانية التي اِعتمدت على الحكمة والشجاعة، مروراً بالنُبلاء ورجال الدين في العصور الوسطى، وصولاً إلى النُخب المُعاصرة مِن رواد الأعمال والتكنولوجيا والمُؤثرين الاِجتماعيين.
وفي ذات المعطى، واصل قائلاً: «تتنوعُ مسارات تكوين النُخب في عصرنا الحالي. فبينما تظلُ الجامعات المرموقة بوابة تقليدية لتشكيل النُخب، خاصةً في المجالات الأكاديمية والسّياسيّة، ظهرت مساراتٌ جديدة تُتِيحُ الوصول إلى المكانة النخبوية. فرواد التكنولوجيا، على سبيل المثال، مثل اِيلون ماسك وبيل غايتس وستيف جوبز حقَّقوا مكانتهم من خلال الاِبتكار والتأثير الاِقتصادي، في حين بَرَزَ مُؤثرو وسائل التواصل الاِجتماعي كنخبة جديدة في العصر الرقمي».
و-بحسب ذات المُتحدث دائماً- فإنّ هذا التنوع في مسارات تكوين النُخب يثيرُ جدلاً حول أفضل السُبل لتأهيل قادة المُجتمع. فبينما يرى البعض في التعليم الجامعي ضمانة لتطوير المهارات القيادية والفكرية، يُشير آخرون إلى أهمية الخبرة العملية والإبداع كمصادر بديلة للتأثير والنفوذ.
ولعل التحدي الأكبر اليوم -حسب رأيه- يكمنُ في ضمان تنوع النُخب واِنفتاح مسارات الوصول إليها. فالاِعتماد على مسار واحدٍ، سواء كان أكاديمياً أو غيره، قد يؤدي إلى تهميش المواهب والقدرات المُتنوعة في المُجتمع. لذا، يبدو أنَّ المُستقبل -كما يضيف- يتطلب نظرة أكثر شمولية تقدر مُختلف أشكال التَميز والإنجاز.
وفي الخِتام، خَلُصَ إلى القول: «تبقى النُخب عُنصراً أساسياً في تشكيل مستقبل المجتمعات، لكن قوتها وشرعيّتها تعتمدُ على قدرتها على التَكيف مع المُتغيرات وتمثيل مُختلف شرائح المُجتمع وتطلعاته».

* أستاذ العلوم السياسية فؤاد منصوري
الجامعة ليست الفضاء الوحيد المحتكر لتشكيل النخب
من جهته، أستاذ العلوم السّياسية بجامعة عنابة، الدكتور فؤاد منصوري، يقول: «تتخرجُ النخب من الجامعة كمصدر أساس لها. لكن هذه الأخيرة ليست الفضاء الوحيد المحتكر لهذه النوعية من المجتمع، فيمكن أن يصل الفرد إلى مستوى النخبة دون أن يكون خريجاً من فضاء الجامعة. كأن يكون تكوينه عصامياً أو أن يكون خريج جامعة الحياة. فالحياة مدرسة كُبرى لمن يريد أن يتعلم ويدرك دقائق الأمور».
مضيفا: «وبالنظر إلى الرساميل التي تُغذي النُخب يمكن أن نصنفها إلى: نخبة سياسية وهي المتواجدة في ماكنة المنظومة السّياسية من أحزاب سياسية ومؤسسات حُكم.. ونخبة عسكرية وهي الفئة المسؤولة على إدارة المؤسسة العسكرية في مجتمعها. ونخبة اِقتصادية وهي الفئة المالكة والمُديرة لوسائل الإنتاج الاِقتصادي مثل أرباب العمل وأصحاب المؤسسات والمشرفين عليها من الصف الأوّل».
كما يشير الدكتور منصوري، إلى وجود نخبة ثقافية وهي الفئة المالكة للرأسمال الثقافي مثل الأدباء والشعراء وكُتّاب الرواية والإعلاميين والسينمائيين والمسرحيين. وكذا نخبة علمية وهي الفئة المالكة للرأسمال العلمي مثل أساتذة الجامعة والباحثين والأطباء والعُلماء عمومًا.
ومن جهةٍ أخرى، ومن بين النخب، يذكر -نخبة دينية- وهي الفئة المؤسسة لمراجع دينية في مجتمعها سواء في شكل أفراد أو مؤسسات.
ذات المتحدّث، يرى أنّه مهما تعدّد أو اختلف الفضاء المُنتج لهذه النخب، فإنّ دورها يظل مهما في المجتمع، وأما ما يتعلق بوظيفة النخب فهي مُتعدّدة.
وقد أوجزها -المُتحدّث- في النقاط التالية: «رسم ملامح المشاريع المجتمعية المايكروية المنظمة للحياة الاِجتماعية والاِقتصادية والسّياسيّة والثّقافية.. ومراقبة تنفيذ وتجسيد تلك المشاريع وتقييمها ومراجعتها. وشرح وتفسير الخطوط العريضة والحيثيات لباقي فئات المجتمع لضمان الاِنخراط وبالتالي نجاح المشروع. والدفاع عن قيم المجتمع التي تُجسد ثقافته وهويته».
مضيفاً في ذات المعطى: «ضمن هذه الوظيفة الكُبرى تعمل النخب كمحركات لإنتاج الأفكار والمساهمات العقلانية التي من شأنها ضمان الديناميكية المتوازنة داخل المجتمع. دون أن ننسى أهمية النخب وقت الأزمات لإيجاد الحلول والبدائل المُلائمة لكلّ وضعية».
واختتم بقوله: «يمكننا التأكيد أنّ النخبة أو الصفوة فئة قليلة من المجتمع تمتلك خصائص تميزها عن باقي فئات المجتمع، كما تمتلك رأسمال معرفي وثقافي واقتصادي وتمتلك (مشروعا) بآليات تحقيقه وتكون مؤثرة في مجتمعها من خلال القيادة والتوجيه».

* أستاذ التاريخ عبد الباسط شرقي
هنــاك مشــارب متعــددة لتشكيــل النّخبـــة في الجزائـــر
يرى أستاذ التاريخ، بالمدرسة العُليا للأساتذة بالأغواط، الدكتور عبد الباسط شرقي، أن النّخب «اِحتلت دومًا مكانة مركزية في الهرم السياسي، وكانت مُساهمة بدرجة كبيرة في تدبير صراعات النسق المجتمعي وتحولاته، ويُعد مفهوم النخبة أحد المفاهيم المحورية في الكتابات الاِجتماعية والسّياسيّة المُعاصرة، منذُ ظهور الاِهتمام بدراسة طبيعة المُجتمع الإنساني».
وهُنا اِستشهد برأي الفيلسوف «توماس بوتومور»، الّذي يقول: (إنّ اِستخدام كلمة النخبة في اللّغة الإنجليزية وِفْقًا لقاموس أكسفورد، كان في سنة 1823، حيثُ أنّه تَمَ توظيف مفهوم النخبة»Elite» في القرن17م، لوصف السلع ذات النوعية المُمتازة، ثمَ اِتسع مفهومها للدلالة على الجماعات الاِجتماعية العُليا كبعض الوحدات العسكرية العُليا أو المراتب العُليا من النبالة).
وفي ذات السّياق اِستدرك قائلاً: «أمّا (كارل ماركس) فهو يرى بأنّ النخبة هي مجموعة صغيرة من الأفراد الذين نجحوا في مجالات الحياة الاِجتماعية، واستطاعت الترقي في بنية التراتب الاِجتماعية، والقيام بإنجازات في المجال المهني حيثُ أنّ هذه الفئة تنبثقُ من المجتمع لتقوده فلا يعقل أن يبقى أفراد المجتمع بدون قيادة».
ثمً أردفَ: «أمّا سوسيولوجيًا وحسب المعجم النقدي لعِلم الاِجتماع فإنّ (باريتو) يرى النخبة عبارة عن أفراد تتوّفر فيهم شروط التميز والنجاح في إطار نشاط اِجتماعي مُعين، إذ يقول: (لنصنع طبقة من الذين يتمتعون بالمؤشرات الأكثر اِرتفاعًا في الفرع الّذي يؤدون فيه نشاطهم وتكون باِسم (النخبة)، فهم طبقة مُتميزة بخصائص نفسيّة واِجتماعيّة تتبنى مراكز الطليعة في مجالات اِجتماعيّة واقتصاديّة وفنيّة مُعينة».
ذات المُتحدث يرى أنّ مصادر ومسارات صناعة وتشكيل وتخريج النُخب متنوعة ومُتعدّدة، قائلاً في هذه النقطة: «يُمكننا القول بأنّ مصادر ومسارات صناعة وتشكيل النُخبة تختلف حسب الظروف الزمنية والمكانية لكلّ مُجتمع، فالفيلسوف الإيطالي (أنطونيو غراميشي) -مثلاً-، يرى أنّ كلّ فئة اِجتماعيّة مسؤولة عن خلق وإيجاد مثقفيها، فالطبقة العصرية ستختار مثقفين عصريين، أمّا الطبقات الآيلة للزوال فحتمًا سترتبط بمثقفين تقليديين)، وبهذا سيشُكل هؤلاء المُثقفون نُخبًا مُستقبليّة إذا توّفرت فيهم شروط معينة، ويمكن أن نُحدّد مصدرين مختلفين لصناعتها».
وهُما -حسبَ الدكتور شرقي-: «أوّلاً المصدر الرسمي: حيثُ إنّ إعداد النخبة يتم بطريقة مُوجهة وفي إطار مؤسسات رسميّة ولأهداف مُحدّدة ومُخَطَّطٌ لها سَلَفًا، الجامعات -مثلاً- تعمل على إيجاد نُخبها الخاصّة، كما أنّ التُجار ورجال الأعمال يُوُجِدُون نُخبهم في المدارس العُليا لإدارة الأعمال».
أمّا المصدر غير الرسمي، -يُضيف المُتحدّث-: «فيمكنُ لأي فرد غير مُرتبط بطبقة أو مجموعة معينة أن ينجح في مجالات الحياة الاِجتماعية، وأن يدخل إلى عالم النخبة، وهو ما يحدث كثيراً في أيّامنا هذه، ونجد من بينهم العُلماء والكُتّاب، وأهل الفن».
ثُمَ اِستدركَ مُوضحاً: «تنطوي دراسة النُخب في أي مُجتمع على أهمية كُبرى، باِعتبارها تنسجمُ بشكلٍ كبير في فهم وتفسير السلطة السّياسيّة داخل الدولة، فنجد دائمًا فئة مُحدودة حاكمة تحتكرُ أهم المراكز الاِقتصاديّة، والاِجتماعية والسّياسيّة، وتلعبُ أدواراً محورية داخلها، وتملكُ سلطة على مستوى اِتخاذ القرارات أو التأثير في صياغتها وتوجيهها حسب الصالح العام، وأخرى واسعة محكومة لا تملك الإمكانيات للتدخل في صناعة القرارات».
مُضيفاً في المُقابل: «تَشَكَلَ حقل النخبة المُثقفة في الجزائر كأي مجتمع أو شعب، خلال مراحل تطوّره، وتقدمه فمر عَبَرَ مسار تاريخي، تَأَثَرَ فيه بالحضارات الأخرى، ختامًا بالعولمة، وعَرَفت تَغييراً اِجتماعيًا وسياسيًا ملحوظاً، مع اِنتشار ظاهرة الحركات الجمعوية والمنظمات والنقابات المهنية والأحزاب السّياسيّة، والمُجتمع المدني، خاصّةً أثناء التغيرات الهيكلية الاِقتصاديّة والسّياسيّة التي شهدتها الجزائر». مُؤكداً هنا: «فَكُلُّ عصرٍ له نُخبه الخاصة، التي تَشَكَلت من مصدرٍ مُعين، والجزائر كغيرها من البُلدان التي تُوجِدُ لنفسها نخب أكاديمية تخرجت من أروقة الجامعات، والتي لها إنجازاتها الخاصّة بمجال تخصّصها، في حين تُوجد نخب تخرجت من فضاءات خارج الجامعة والعمل الأكاديمي، فنجدها تعمل على تطوّر نفسها دون التقيد بقوانين تحدُّ من حريّتها وتوجهها، كما يوجد النوع الثالث الّذي يجمع بين المصدرين، وهم النُخب التي تخرجت من الجامعة، ووجدت لها نشاطاً مُتطوراً خارجها».
واختتمَ قائلاً: «من الجيد أنّ بعضاً من هذه النُخب وعلى اِختلاف مصادرها اِستطاعت تبني خطاب سياسي من خلال التجمعات الحزبيّة من أجل الاِلتحاق بالسلطة، والمُشاركة في صناعة القرارات المصيريّة، وتفعيل أغلب الجمعيات الثّقافيّة والنسوية والمُنظمات الحقوقية والهيئات المهنية في الحياة السّياسيّة بغريزة سياسيّة تُغذيها خلفية فكريّة وإيديولوجية بنّاءة، تَصُبُ كُلها في صالح المُجتمع المدني بمختلف أطيافه».

* أستاذ عِلم الاِجتماع السياسي عبد السلام فيلالي
بروز النخبة مُرتبطٌ بالنبوغ والإنجاز وليس بالشهادات العُليا
يقول الكاتب وأستاذ عِلم الاِجتماع السّياسي، بجامعة عنابة، الدكتور عبد السلام فيلالي: «يمكنُ تعريف مفهوم النخبة بأنّهم الأشخاص المُتميزون أو المُتفوقون في مجال/تخصص ما، وهم بالتالي أقلية. وعادةً ما يذهب التعريف إلى المجال الثّقافي والأكاديمي، في حين أنّنا نرى أنّه لم يتم تحديد هذا التخصّص أو ذلك. وحينَ ربطه بالسياسي، يصيرُ المعنى مُرتبطاً بمن لهم أهلية اِتخاذ القرار. ولذلك وجب إدراك مستويات التعريف، لكي نستطيع ضبطه بدقة».
مُضيفاً في ذات المعطى: «يرتبطُ مفهوم النخبة بالجامعة من حيثُ أنّها مؤسسة تمنحُ الاِمتياز في تخصص معيَّن، فهي بالفِعل مُنتجة للنُخب. ولكن ليسَ كلّ من يتخرج من الجامعة هو نخبة بالمعنى السياسي. وفي هذا تشتركُ مراكز التدريب والتكوين في منح هذا الاِمتياز هي أيضا. ولكن لا يصنف ما تمنحه كشهادات عُليا، إنّما هي مجرّد تأهيل من أجل الترشح إلى مِهن مُحدّدة».ثم يستدرك قائلاً: «لأجل إدراك هذا التباين، نُحيلُ إلى شرطٍ صار ضروريًا الاِلتزام به في الترشح إلى أي مسؤولية، ويا حبذا لو كانوا من خريجي جامعات أو معاهد كُبرى. فبمثل شهاداتهم يفتخر المتخرجون منها ويحظون بالأولوية في عملية أي توظيف، خاصةً في الدول المُتقدمة حيثُ معيار الكفاءة مهمٌ جداً ويتم مُراعاته والاِلتزام به، وذلك بالنظر إلى التطوّر الهائل الّذي بلغته التخصّصات ذات العلاقة بعالم الاِقتصاد والإدارة والتسيير. فهذه نخبٌ مُعترفٌ بكفاءتها ويتمُ التعرّف عليها في مراحل أولى من التكوين، لأجل اِستقطابها. عندئذ نعرف النُخب تبعًا للمؤهلات التي تُحظى بها وتكون مَحل ترحيبٍ وطلبٍ كبير. فهي في مقام نُخب النخبة».ثم يأتي المعيار الثاني -حسب المُتحدّث- في اِستقطاب ذوي الاِمتياز والكفاءة تبعًا لِمَا أبدوه من قدرات فائقة في مجالات عملهم وتخصّصهم، وفي هذا لا تكون الشهادات العُليا هي المقياس. فقد يشتهر فنان في فنه، ومبدعٌ في مجاله، حتّى ولو كان ذلك في عالم الخياطة أو النحت أو تصميم السيارات أو الرياضة وهلم جرا. هذا البروز كما هو واضح مُرتبطٌ بالنبوغ والإنجاز وليس بالشهادة. فمقياس التفيئة ضمن نخبة مرتبطٌ بالتفضيلات الاِجتماعية وطلبات السوق.ولذلك -حسب رأيه- فإنّ معالجة إشكالية النخبة ومن عساه يكون من النخبة، مرتبطة بثقافة وتقاليد المجتمع، فلا يمكن التعميم أو القيام بإسقاط حين المقارنة أو البحث عن نموذج.فالطلب الاِجتماعي -كما يُضيف- تُحدّده اِعتبارات قد لا تتوافق مع التقييم النخبوي الكلاسيكي لجهة الاِنتماء الاِجتماعي أو التحصيل المعرفي.
ثم أردفَ: «لقد اِنهدمت هذه القيم مع ما حقّقت الرأسمالية من اِختراقات ونجاحات في شتّى المجالات وذلك بفضل اِنجازات رجال ونساء، بحيثُ صار النجاح والتطوّر مُرتبطاً بهم. فلو أخذنا نيل شهادة البكالوريا معياراً للنخبة فسوف نجد عديد الشخصيات التي لم تحصل عليها، ولكنها برزت سواء في عالم السياسة أو المال أو الفن، وصار لهم تأثير في مجتمعاتهم».
وخلص إلى القول: «إنّ الجامعة هي مصنع النُخب ولكنها لا تحتكر هذه المهمة. إذ يظهر فقدان الشهادة عائقًا في بعض الأحيان في عملية الصعود أو تحقيق طموحات شخصية. ولذلك يسعى البعض لاِستدراك ما فات، أمرٌ مُمكن ومُتاح مع تطوّر وسائل التعليم سواء من قِبل مؤسسات التعليم العمومية أو الخاصة».

* الباحث والأكاديمي عبد النور شرقي
الكثير من النُخب ناضلت من خارج أسوار الجامعة
أمّا الباحث في الفكر والفلسفة، الدكتور عبد النور شرقي، فيرى أنّ «مفهوم النخبة يُحيلُ على ظاهرة تكاد تكون مُلازمة للاِجتماع البشري، فهي تُمثلُ فئة مُنتجة للفِكر والمعرفة والثروة بفضل ما تحوزه من موارد مادية وذهنية جعلتها تتبوأ مراكز الطليعة في مجالات اِجتماعيّة واِقتصاديّة وسياسيّة وفنيّة مُعينة؛ وضمن هذه الفئة نجد النُخب المُثقفة (الأنتيلجانسيا) والنُخب السّياسيّة والنخب التكنوقراطية وغيرها من النُخب الأخرى. وتُساهم هذه النُخب على اِختلاف تخصّصاتها في تشكيل المُجتمعات السّياسيّة والاقتصاديّة والصناعيّة والثّقافيّة كما تُؤثر في توجيه السياسات واتخاذ القرارات لِمَا تتمتعُ به من مستوىً في التكوين والخبرة».
مضيفاً في المقابل: «صحيح أنّ المؤسسات الجامعية والمراكز الأكاديمية تُمثّل أبرز الفضاءات التي تنشأ فيها النُخب، لِمَا تُوفِره من بيئة مُناسبة للتعليم والتكوين في مُختلف العلوم والمعارف؛ فهذا الفضاء يُساهم في تكوين أفراد يمتلكون القدرة على التفكير والتأثير في المؤسسات الاِجتماعيّة والسّياسيّة، كما تعمل على تخريج إطارات علمية وتقنية يتم إعدادها بطريقة موجّهة لأهدافٍ مُخطَّطٌ لها سلفًا تتركزُ أساسًا حول التنمية وبناء الدولة الحديثة وتلبية حاجياتها وهذا الّذي اِنصبَ اِهتمام دول جنوب المتوسط عليه بعد الاِستقلال».
وبينما تظل الجامعة -كما يقول- «فضاءً مُناسباً لوجود النُخب الفكريّة والعلمية التي تعمل على تحليل البُنى الاِجتماعية وتسليط الضوء على المشكلات الاِجتماعية وتقديم أطروحات تدعو إلى الإصلاح الاِجتماعي والتغيير نحو الأفضل. فإنّه في المقابل نجد العديد من النخب تظهر خارج الجامعة وفي مجالات مختلفة ولعل العديد من التجارب في الحياة اِستفاد منها أصحابها واتخذوا منها منطلقاً للخبرة والإلمام الجيد مثل الفنون والسياسة والاِقتصاد والصناعة وغيرها. والنخبة المسؤولة هي التي يكون لها وعيٌ واضح تجاه المجتمع والرأي العام ومهام القيادة في جميع الميادين».
صاحب كِتاب «المُقدّس والعُنف في فِكر محمّد أركون»، واصل مُؤكداً: «إنّ الأكاديمي الّذي يهتمُ بالأفكار وتحليل الوقائع والأحداث يصير مُنظِّراً فحسب، بينما يتحوّل إلى قوّة نضالية في خدمة المجتمع إذا حقَّق شرطين: القيام بمُمارسة منظمة للتفكير في الواقع الاِجتماعي-السياسي، إضافةً إلى المشاركة في تطويره، فالبحث وتحصيل المعارف العلمية لوحده غير كافٍ وإنّما القدرة على توظيف هذه المعارف في الميادين المجتمعية، وهنا يبرز الدور المحوري للنخبة المُثقفة في بلورة الرُؤى والخُطَط الإستراتيجية المُمكنة».
ثم يُضيف قائلاً: «على المُثقف وأيًا كان الفضاء الّذي تَشَكَلَ أو تَخَرَجَ منه، أن يكون فاعلاً وصاحب دور ومبادرات ورؤى، ويحضرنا في هذا الصدّد الدور البارز للفيلسوف نعوم تشومسكي في نقده للسياسة الخارجية الأمريكية ودعم الحركات المُناهضة للحروب، كما أنّ إدوارد سعيد لم يغلق على نفسه داخل أسوار الجامعة ليُقدم لنا نظريات وتوجهات أكاديمية، بل كان فاعلاً اِجتماعياً ساهم بكتاباته ومشاركاته النضالية في ميادين السّياسة والثقافة، والفيلسوف جون بول سارتر هو الآخر لم يكن أكاديميًا بقدر ما كان مُثقفًا عضويًا نزل إلى الشارع في مظاهرات الطلبة 1968، كما نَدَّدَ بالاِستعمار الفرنسي للجزائر وكَتَبَ حول جرائم القتل والإبادة. وكتاباته المُختلفة شاهدة على نضاله، ونذكر منها (عارنا في الجزائر)».
المُتحدّث، إضافةً إلى هؤلاءً، ذَكَرَ أيضاً فرانز فانون المُفكر والطبيب النفساني ونوّه بتأثيره الّذي كان كبيراً في حركات التحرّر الإفريقية من خلال كتاباته. كما أشار كذلك إلى المهاتما غاندي الّذي -حسب قوله- وظّف ثقافة وفلسفة اللاعنف في قيادة الهند نحو الاِستقلال.
كلً هؤلاء وآخرون -كما يُضيف- مثّلوا النخبة التي ناضلت من خارج أسوار الجامعة وأثّرت في الوعي المجتمعي، كما ساهمت في تغيير تاريخ بلدانهم وتاريخ المجتمعات المضطهدة.
واختتم بقوله: «في النهاية نشير إلى الفرق بين النخبة التقنية والنخبة المُثقفة والّذي يكمن أساساً في الدور القيمي الّذي تلعبه الفئة الثانية، فقد حذّر جون فرانسوا ليوتار من تحويل الجامعة إلى مراكز تكوين تقنية، كما نظر سارتر إلى رجل التقنية أنّه ليس بمثقف، فالمُتخصّص في المعارف الذرية مثلاً هو رجل تقنية، ويصبح مُثقفًا في حالة ما إذا طرح على نفسه السؤال حول أهمية القنبلة التي صنعها وخطورة اِستخدامها على البشرية لينتهي به الأمر إلى اِستنكار ما أنتجه ويُناضل من أجل عدم توظيف إنتاجه فيما يؤدي إلى كوارث ويؤذي النّاس».

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com