الثلاثاء 19 أوت 2025 الموافق لـ 24 صفر 1447
Accueil Top Pub

الشاعر والمسرحي عبد الناصر خلاف للنصر: وجدتُ في الخشبة حياة ثانيّة فابتعدتُ عن الشّعراء و التحمتُ بالشّعر!

* اللّغة البصريّة منحت السيّادة في المسرح للسينوغرافيا بدل النص
يرى الشاعر والناقد والكاتب المسرحي، عبد الناصر خلاف، أنّ الشِّعر كان هو الّذي يخدم المسرح، فقد كانت النصوص المسرحية، هي في الأصل نصوصًا شعريّة، لكن مع ظهور تيارات جديدة في المسرح تحوّلت النصوص الشِّعرية إلى نصوص نثرية، وتحوّل المسرح بذلك من مسرح الكاتب إلى مسرح المخرج.

حوار: نوّارة لحـرش

وهُنا -حسبَ اِعتقاده- يمكن أن نحكم أنّ المسرح هو الّذي يخدم الشِّعر. مُؤكدًا في ذات المعطى، أنّ الشِّعر هو الّذي كان يحمل المسرح، لكن بمجيء النثر أسقط الشِّعر أرضًا. لذا علينا -حسب قوله- أن نتحايل عليه أحيانًا كي نجعل المسرح يحمل قليلاً الشِّعر كي نراه ونسمعه. لكن في مقابل هذا ومن جهةٍ أخرى، يرى أنّ المسرح حاليًا أصبح يعتمد على اللّغة البصريّة مِمّا أعطى السيادة للسينوغرافيا بدل النص المسرحي، كما هيمنَ أيضًا العنصر الكوريغرافي، وبالتالي حَدَثَ اِقتصادٌ كبير في النص.. لكن في كلّ الحالات تبقى جمالية العرض تعتمد على هذا العناق الجميل بين القصيدة والخشبة. رغم أنّ القصيدة المُعاصرة في الجزائر، كما يقول خلاف، قد فقدت أغلب جمهورها لأسباب عِدة منها، هيمنة التكنولوجيا على الوسائط الإعلامية السمعية والبصرية.
للتذكر عبد الناصر خلاف، هو كاتب وناقد مسرحي، وهو حاليًا مدير المسرح الجهوي لولاية الجلفة، شَغَلَ سابقًا منصب رئيس نادي ثقافي بدار الثقافة عنابة في التسعينيات. أنجزَ بعض الأعمال، تمثلت تحديدًا في بعض التراكيب الشّعريّة للمسرح، (وهو أوّل كاتب عربي أنجز التراكيب الشِّعريّة بتقنية مسرحيّة). من بينها: "ورد أقل" لدرويش، و"الكابوس" لمحمّد الماغوط، و"تداعيات عاشور" المُقتبسة عن نص واسيني الأعرج، و"الفراشات السوداء" المُقتبسة عن نص للشاعر عبد الله رزيقة. وتركيب شِعريّ آخر عن نصوص "محمّد الماغوط" حَمَلَ عنوان "اِسمي"، وقد أنجزهُ تكريمًا لصديقه الشاعر الراحل ممدوح عدوان. كما قَدَمَ عملاً آخر، اِشتغلَ فيه على نص قصصي مُترجم عن الألمانية لأبي العيد دودو. إلى جانب هذا، أصدر عِدة كُتب حول النقد المسرحي تناول فيها مجموعة من التجارب الفنية في قطاع المسرح، كما له مشاركاتٌ عديدة في المهرجانات الوطنية والدولية كمُسيّر ومُبرمج ومُحاضر ومُحَكِم. وقد نال جوائز كثيرة من هيئات دولية حول مجهوداته في البحث والنقد والكتابة للمسرح العربي.
تعاملتُ بتحيّز لمسرحة القصيدة كي ينتصر الشِّعر
أين أنتَ الآن، وهل يمكن القول إنّ المسرح اِلتهمَ الشاعر فيك؟
- عبد الناصر خلاف: أنا الآن قريب من نفسي، أحاول أن أمتد بصفاء إلى الداخل حيثُ العالم يأخذ صورة أخرى. ها أنا اِبتعدتُ كثيرًا عن لعنة الشعراء وامتدت الهوة بيني وبينهم.. هذه الكائنات التي كانت فعلاً تشبهُ الفراشات والأزهار تشوّهت وامتلأت بالخوّاء لذا تركتُ دمي ودمعي على الأعشاب ومضيتُ حيثُ استمع إلى صوت الداخلي.
القصيدةُ تسكُنني ولعنة الشِّعر مازالت تُحاصرني، إنّني هنا أبتسمُ أحيانًا، وأبكي كثيرًا للعطب الّذي جعلنا نتشوّه بسرعة ولم نعد كالأمس أطفالاً. إنّني هنا، لا أحد يراني سوى من يملك حساسية زائدة، إنّني هنا حيثُ الشِّعر. أعرف أنّ الكثير من الأصدقاء عاتبني لأنّني قلتُ بلغة قاسية إنّني خنتُ الشعراء، لكنّها الحقيقة. لقد وجدتُ في خشبة المسرح حياة ثانية ولغة مدهشة التشكيل واللون، تعاملتُ بتحيّز لمسرحة القصيدة كي ينتصر الشِّعر في زمن الموت، إنّني هنا غيرتُ مكاني لكنّني اِقتربتُ أكثر والتحمتُ بالقصيدة.
"التشكيل" اللغوي النخبوي الّذي تعجز القواميس عن تفسيره هَرَّبَ الجمهور من الشّعر
سبق و أن قلتَ بأنّك تريد إيصال القصيدة إلى الآخر بالرشوة الجمالية. كيف هذا؟
- عبد الناصر خلاف: فِعلاً.. لقد تحدثتُ في كثير من المنابر الثّقافيّة والإعلاميّة عن هذه "الرشوة" التي تُشبهُ حبات الدواء المُغلفة بمادة سكرية، تجعلُ الطفل عندما يتناوله لا ينتبهُ إلى مرارته.. أعتقدُ جازمًا أنّ القصيدة المُعاصرة في الجزائر، فقدت أغلب جمهورها لأسباب عِدة منها، هيمنة التكنولوجيا على الوسائط الإعلامية السمعية والبصرية.. كما يتحمل الشاعر جانبًا كبيرًا من المسؤولية حيثُ اِغتربَ كثيرًا وغَرَّبَ وهَرَّبَ جمهوره بقصف مفاهيمي ولغوي، بدعوة الحداثة وما بعدها، والتصوّف.. هذا "التشكيل" اللغوي النخبوي الّذي تعجز القواميس عن تفسيره، هذا بالنسبة للمُتلقي المُختص، فما بالك للقارئ العادي؟؟
إنّ الشِّعر في جوهره ليس مجموعة من الشيفرات والرموز، إنّما "هو ما يحركُ الشعور". وانطلاقًا من تجاربي الكثيرة في رئاسة لجان التنظيم العُليا لعِدة مهرجانات وملتقيات أدبيّة وطنيّة، وصلتُ إلى نتيجة مفادها أنّ هناك وسائل أخرى لم يُوظفها الشاعر الجزائري المُعاصر، منها لُغات العرض المسرحي.. وقد حاولتُ أن أستفيد من هذه التقنية التي أعتبرها "رشوة" لأوصل –بتجربة متواضعة- إلى جمهور فقد علاقته بالقصيدة، وعندما أتحدثُ عن هذا "الجمهور" فإنّني لا أقصد ذلك الجمهور الحاضر "بالقوّة" بحكم أنّه يتشكلُ من المنظمين والشُعراء المُشاركين والإعلاميين والإداريين.. أتحدثُ هُنا عن جمهور مُختلف تُحركهُ القصيدة فقط. فكان التركيب الشِّعري الّذي اِشتغلتُ واشتغلُ عليه في تجاربي المسرحية هو "رشوتي" الجميلة.
إذا كان المسرح هو "أب الفنون" فالقصيدة هي "أم الفنون"
تجاربك المسرحية تعتمدُ على التركيب الشِّعري. فهل أنت تُلقحُ المسرح بالشِّعر؟ ما يعني -ربّما- أنك شاعرٌ بالأساس.
- عبد الناصر خلاف: جميلٌ جدًا هذا الوصف "التلقيح"، وهي فِعلاً هذه العملية التي تَضخُ في جسدِ القصيدة دمًا جديدًا.. لقد اِستفدتُ من المسرح، هذا الفن المُدهش والحي الّذي يرتبطُ أساسًا بالجمهور، فلا مسرح بدون جمهور. إنّه يجعلهُ يعيشُ "الآنية".
في بدايات تجربتي تساءلتُ لِمَ لا نستفيد من دهشة المسرح؟ فإذا كان المسرح هو "أب الفنون" فأعتقد أنّ القصيدة كما قلتُ في مرات كثيرة، هي: "أم الفنون"، هي الأنثى، هي الخصوبة، هي روح العالم وصوت الإنسان.
في بداياتي كنتُ أوظفُ تقنيات الخشبة "رغم غضب أهل الحرفة علي"، واعتبروا -حينها- ما أقوم به هو "نزوة شاعر" وهناك من جعلها مصدر سخرية.. وبعض زملائي الشُعراء من اِعتبر هذا التوجه هو عجز لي كشاعر، وبالتالي هو تعويضٌ عن هذا العجز "الشِّعري" بعمل اِستعراضي، هذا الّذي كان يحدث، شخصيًا لم أعطِ للأمرِ أية أهمية، بل اِستفدتُ منه، وكان دافعًا قويًا لأُعمق تجربتي، فالتحقتُ وقتها بالمعهد العالي للفنون المسرحية -ببرج الكيفان- وتحصلتُ على ديبلوم الدراسات العُليا في الفنون المسرحية.
في البدايات الأولى كان العمل يأخـذ صفة "الكولاج" وكنتُ فعلاً أعيش روح القصيدة وكانت تجربة متناهية الرقة ومُذهلة، كان لا بدّ للشاعر والمسرحي في داخلي أن يتحالفا للقبض على وهج القصيدة الحية والشّهيّة والعصيّة أحيانًا ومد أطرافها وجعلها مرئية، تضخ بالحياة.. كنتُ أكتب قصائد ركحية، وعلى الخشبة كنتُ أغرق في الذهول والبكاء والفرح.. كنتُ أجعل المُتلقي الّذي لا يعرفني، يعيشُ معي هذا الطقس الشِّعري. كانت للقصائد على الخشبة رائحة ولون وطعم.. كانت مصيدة!! أي التي تُشبهُ تلك العلاقة بين النحلة والزهرة، أي كما قلتِ أنتِ سابقًا "تلقيح" وكان فعلاً التركيب الشِّعري مصيدة يقع فيها المُتلقي، ويطلب بعدَ نهاية العرض أن نعطيه ديوان الشِّعر.
برأيك هل يعني هذا أنّه يجب أن نُمسْرِحَ الشِّعر إن صحت التسمية حتى نُرَغِبَ فيه المُتلقي أو حتّى نصطادهُ بتوابل ركحية؟
- عبد الناصر خلاف: الصحيح هو كلّ هذا، أي مسرحة الشِّعر (جعل القصيدة درامية) ومنها اِصطياد المُتلقي كما قلتِ بتوابل ركحية، الغاية منها إيصال القصيدة والاِحتفاء بها.
الشاعر المُعاصر سجن نفسه داخل متاهات لغوية وهو شخصيًا عاجز عن فهمها وفك طلاسمها
تقول بأنّ الشِّعر اِبتعدَ عن الجمهور تمامًا. فهل يمكن القول أيضًا بأنّ الجمهور اٍبتعد عن الشٍّعر والشاعر تمامًا؟
- عبد الناصر خلاف: للأسباب السابقة الذِكر اِبتعد الجمهور عن الشِّعر والشاعر. أي من المُمكن أن نسميها عملية "نفور".. فالشاعر المُعاصر سجن نفسه داخل متاهات لغوية وهو شخصيًا عاجز عن فهمها وفك طلاسمها.. إنّه يكتب القصيدة بكثير من التعالي، وأحيانًا التعالي المُطلق، "إني في الأعلى وعلى المُتلقي أن يصعد إلي!!".
المسرح أصبح يعتمد على اللّغة البصرية مِمّا أعطى السيادة للسينوغرافيا بدل النص المسرحي
إلى أي حد يخدم المسرح الشٍّعر وكيف؟، وهل يخدم الشِّعر المسرح وكيف؟، ومن منهما يخدم الآخر أكـثـر؟
- عبد الناصر خلاف: منذ عهد الإغريق كان الشِّعر هو الّذي يخدم المسرح مرورًا بالمسرح الإليزاباتي إلى غاية موليير وديدرو.. فقد كانت النصوص المسرحية، هي في الأصل نصوصًا شعريّة، ومع ظهور تيارات جديدة في المسرح منها: العبث والطبيعي، والسيكولوجي.. تحوّلت النصوص الشِّعرية إلى نصوص نثرية، وتحوّل المسرح من مسرح الكاتب إلى مسرح المخرج.. والآن يمكننا أن نحكم أنّ المسرح هو الّذي يخدم الشِّعر، وإن أردنا تبسيط القضية أكثر، فالشِّعر هو الّذي كان يحمل على ظهره المسرح، وبمجيء النثر أسقط الشِّعر أرضًا، لذا علينا أن نتحايل عليه أحيانًا كي نجعل المسرح يحمل قليلاً الشِّعر كي نراه ونسمعه.. وإن كان حاليًا المسرح هو أيضًا أصبح يعتمد على اللّغة البصريّة مِمّا أعطى السيادة للسينوغرافيا بدل النص المسرحي، كما هيمن أيضًا العنصر الكوريغرافي، وبالتالي حَدَثَ اِقتصادٌ كبير في النص.. لكن ما أراه شخصيًا أنّ جمالية العرض يعتمد على هذا العناق الجميل بين القصيدة والخشبة.
الشاعر "الشعبي" هو الشاعر الحقيقي الّذي اِقترب بنصوصه إلى مختلف شرائح المجتمع
الشّعر الشعبي أو المحلون يحضر أيضا في العروض المسرحية، وقد قلتَ في هذا السّياق: "الشِّعر الملحون أصدق وأعمق من الشِّعر المكتوب باللغتين العربية والفرنسية، لأنّه قريب من المُجتمع". لكن هل ترى بأنّ الجماليّة مُتوافرة بكثافة في الشِّعر الملحون؟
- عبد الناصر خلاف: لقد صرحتُ فعلاً بهذا، وأنا مازلتُ مُقتنعًا بذلك، فالشاعر "الشعبي" هو الشاعر الحقيقي الّذي اِقترب بنصوصه وهمومه إلى مختلف شرائح المجتمع، حيثُ يكتب لهم ويُعبر عن أحاسيسهم وعذاباتهم، ورغم هذا فأنا أعتبر "محمود درويش"، "نزار قباني"، "عيسى لحيلح"، "أحمد مطر"، "شُعراء شعبيين".
إنّ الشاعر المُعرب أو المُفرنس في الجزائر يكتبُ وهو منغمسٌ في دواخله وغارقٌ في رموزه، وشطحاته اللّغويّة.. إنّه مُتعالي.. عندما نتحدث عن جماليات القصيدة، لو أخذنا مثلاً قصيدة "ﭭـمر الليل" لكريو، و"حيزيّة" لبن قيطون، هل تخلو منهما العناصر الجمالية؟ هل هي مجرّد حشو لغوي؟ وتلاعبٌ بالألفاظ وسجع!؟!، فقط أُشير أنّ هناك الكثير من شعراء اللّغة العربية من يكتبون سرًا وعلنًا قصائد شعبية لن أقول لكِ وللقارئ من هم؟؟ لكن أسألك لِماذا هذا التحوّل؟!
مسرحة الشِّعر هي تجربة دفاعًا عن القصيدة وحمايتها وتقريبها إلى الجمهور
شَعْرَنَة المسرح ومَسْرَحَة الشِّعر، أيّهما أسهل، وأيّهما أقرب إلى نفسيتك الفنية؟
- عبد الناصر خلاف: الأقرب إليّ بحكم تكويني المسرحي، هي عبارة أو مصطلح "شِعريّة المسرح"، لأنّ المسرح في السنوات الأخيرة خاصةً المسرح الغربي، هو أيضًا يعيش أزمة، حيثُ أصبحَ –وهذا بحكم الكثير من المختصين- أكثر ميكانيكية، وتحوّل المُمثل، هذا الكائن المُدهش إلى آلة داخل مصنع كبير..
لذا أجدني أكثر اِقترابًا من هذه الرؤية لأنّ الجمهور الجزائري يحب السحر والحلم والدهشة واللون والكلمة.. إنّه أكثر حساسية للأشياء الجميلة. أمّا عن مسرحة الشِّعر، فهي تجربة أقوم بها دفاعًا عن القصيدة، وحمايتها، وتقريبها إلى الجمهور، هي هذه "الرشوة".. إنّ جيلنا والأجيال التي سبقتنا تربى على الكِتاب وكان يجد بهجته في ديوان شِعري مطبوع.. أمّا الأجيال الحالية أو القادمة، أعتقد أنّها لا تحتمل هذه المُتعة أكثر.. إنّها أجيالٌ مُختلفة وعلينا أن نفكر في الأمر ببراغماتية..

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com