تحول مصطلح "تعفن الدماغ" إلى "ترند" على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو يشير إلى الاستخدام المفرط للهواتف الذكية والتعرض إلى المحتوى غير المفيد ومقاطع "ريلز"، وقد أطلق نفسانيون ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي تحذيرات في شكل مقالات ومقاطع مصورة حول تأثير هذه الظاهرة وتسببها في تدهور القدرات المعرفية، والعاطفية، والسلوكية وبالأخص لدى الأطفال.
إيناس.ك /هدى.ط
"السبليمنال" محفزات خارج نطاق الوعي
وبحسب ما رصدناه حول هذه الظاهرة فإن تعفن الدماغ أو ما يُعرف باللغة الأجنبية بـ "Brain Rot" يشير أيضا إلى "الترند الإيطالي" الذي يبدو في ظاهره مسليا ولطيفا، لكنه يقدم صورا و"فيديوهات" لشخصيات كرتونية غريبة تمزج في شكلها بين كائنات حيوانية، أطراف إنسان، أو أدوات ووسائل مختلفة أشهرها "توم توم ساهور" وهي دمية خشبية تتحرك بطريقة آلية وتصدر صوتا غريبا، و"باليرينا كابوتشينو" راقصة باليه" برأس على شكل فنجان قهوة، كما لاحظنا خلال العدوان على غزة انتشار صور لأسماك قرش ترتدي أحذية رياضية، في شكل طائرة حربية تخرج منها نيران.
و تتحرك هذه الشخصيات وغيرها من المسوخ والكائنات الهجينة التي تجتاح مقاطع اللريلز و الشورتس القصير الرائجة على مواقع التواصل الاجتماعية، على وقع موسيقى مشوشة، يؤكد متابعون بأنها تتمثل في توكيدات أو ترددات تعرف بـ "السبليمنال" (Subliminal) وهو مصطلح يشير إلى الرسائل أو المحفزات التي يتم تقديمها خارج نطاق الوعي، أي أنها غير مدركة بشكل مباشر من قبل العقل الواعي، وعادة ما تكون هذه الرسائل سمعية أو بصرية، وتهدف إلى التأثير على العقل الباطن والسلوكيات دون علم الفرد.
ويختلف مكان ظهور هذه الشخصيات فيشعر المتابع أن مصممها يحاول دمجها في بيئة الإنسان بشكل طبيعي، فقد لاحظنا تواجدها في قاعة علاج وهي مكونة من عائلة أب في شكل قرش بجسد إنسان رياضي ضخم، مع شخصية "باليرينا كابوتشينو" يحملان ابنهما، كما ظهرت الشخصيتان ترقصان في قاعة للحفلات، وظهرت شخصية "توم توم ساهور" في البحر.
والمثير للانتباه أيضا، أن هذه الشخصيات ترتدي أزياء تكون أحيانا فاضحة خصوصا الأنثوية منها، إلى جانب قطع زينة كبيرة الحجم والواضح من خلال طبيعة المحتوى أنه يستهدف الأطفال بشكل مباشر.
ومما لفتنا كذلك، أنه عند وضع اسم لإحدى هذه الشخصيات في محرك البحث "غوغل" فإنه يضيف خانة تقترح الانتقال إلى مشاهدة فيديوهات قصيرة، وعندما ضغطنا عليها ظهرت مجموعة من المقاطع بشخصيات مختلفة.
وقد توصلنا إلى أنها تتوفر في شكل ألعاب إلكترونية، كما خرجت من العالم الافتراضي إلى الحقيقي في شكل ألعاب تسلية قطنية بحسب ما ظهر لنا على "فيديو" في مقطع قصير على "يوتيوب".
كلمة العام 2024
وقد اعتبرت جامعة "أكسفورد" تعفن الدماغ كلمة العام بعد تصويت عام شارك فيه أكثر من 37 ألف شخص، وبعد مناقشة عامة على مستوى العالم وتحليل بيانات اللغة، حيث لاحظ خبراء اللغة في الجامعة ذاتها أن معدل استخدام المصطلح زاد بين سنتي 2023 و2024 بنسبة 230 بالمائة.
خصوصا وأن أغلب التطبيقات الإلكترونية أصبحت داعمة للمقاطع القصيرة على غرار "شورتس" "يوتيوب"، و"ريلز" "فايسبوك" و"إنستغرام"، أما "تيك توك" فهو تطبيق مخصص أساسا للفيديوهات القصيرة.
الشرود الذهني والنسيان أبرز أعراض تعفن الدماغ
ومن أبرز الأعراض التي ذكرها نفسانيون بسبب استخدام الهواتف الذكية لساعات طويلة والتعرض إلى المقاطع القصيرة، النسيان والشرود الذهني، عدم القدرة على التركيز، الانجذاب المفرط إلى الهواتف وعدم القدرة على البقاء بدونه، الأرق وصعوبة النوم في وقت مبكر خصوصا وأن المقاطع القصيرة لا تتجاوز الدقيقة وتأتي متنوعة المواضيع.
كما لا تقتصر "الفيديوهات" على نطاق جغرافي واحد بل تظهر أخرى من مختلف دول العالم، لذلك فهي تسجن المتلقي داخل الشاشة لساعات طويلة دون أن يشعر بمرور الوقت.
تحدثنا إلى عينات من المستخدمين، حول هذه الظاهرة وتأثيرها على عائلات جزائرية، فقالت مريم امرأة متزوجة أن زوجها من متابعي مقاطع "الريلز" بشكل مفرط يقترب من الإدمان، فما إن يمسك بالهاتف تشعر وكأنه غير متواجد في المنزل ويطول الأمر لساعات دون توقف أحيانا ويصل إلى تناول وجبة العشاء وهو على تلك الحالة، كما أصبح غير قادر على النوم إلا والهاتف في يده.
أخبرتنا كذلك، أن هذا السلوك سبب لهما مشاكل عديدة خصوصا عندما يخرجان بالسيارة، فما إن يجلس في مطعم أو يركن السيارة يحمل الهاتف مباشرة، ناهيك عن معاناته من النسيان وحالة التعب التي يشعر بها طول الوقت.
أما زينب، وهي أم لأربعة أطفال فأوضحت، أن المنزل يدخل في حالة فوضى عندما يحمل أبناءها الهاتف خصوصا وأنهم يفضلون مشاهدة هذه "الفيديوهات" بصوت عال جدا، وبما أنها موظفة فإن الأمر يؤثر عليها ويسبب لها صداعا طوال اليوم.
وتحدثت أيضا، عن إحساس الإحراج الذي تشعر به إذا زارها ضيوف أو اجتمعت مع أفراد عائلتها الذين ينزعجون من الضجيج، وقد لاحظت أن أطفالها يتصرفون بشكل عدواني عند محاولة انتزاع الهاتف منهم خصوصا أصغرهم فيدخل في هيستيرية من البكاء والغضب.
سقوط التفاعل مع المحتوى المفيد ودعوة لـ "ديتوكس إلكتروني"
وأثرت الظاهرة على تواجد صناع المحتوى المتخصص والمفيد واشتكى عدد منهم من سقوط التفاعل مع ما يقدمونه، كما اضطرت صفحات إلى التوقف عن النشاط مثلما حصل مع صفحة "سيمبري" الثقافية التي تنشر مقالات علمية وتاريخية، وقد أعلنت مؤخرا عن إغلاق الصفحة الرئيسية والتحول إلى أخرى بسبب غياب التفاعل.
كما اشتكى مدونون من صعوبة الوصول إلى جمهورهم من خلال "الفيديوهات" الطويلة، أو المنشورات التي تسجل تفاعلا ضعيفا جدا.
وفي حديثنا مع شروق مسعودي، صانعة محتوى تاريخي على منصتي "تلغرام"، و"فايسبوك" أخبرتنا أن إحصائيات صفحتها كشفت أن متابعيها لا يتفاعلون بشكل جيد مع المحتوى الطويل، ويميلون إلى المنشورات القصيرة أو التي تقترح فيها كتبا، وقد ربطت ذلك بالميل إلى المحتوى السمعي البصري خصوصا القصير منه وغير الجاد.
تضيف المتحدثة، أنها تضطر أحيانا إلى استخدام عبارات فكاهية لجذب المتابع، وقد اعتبرت ذلك سببا في عدم القدرة على متابعة المحتوى الطويل مثل حلقات "البودكاست"، وإن كانت تقدم معلومات مفيدة إلى جانب الوثائقيات، وفيديوهات "يوتيوب" الطويلة.
وذكرت أيضا، عدم القدرة على قراءة الكتب والمقالات الطويلة، وصعوبة الخوض في التفاصيل والبحث عن الإيجاز، وأردفت في هذا الجانب أنها تحاول تخليص مراجعات الكتب قدر الإمكان.
فيما أطلق نشطاء على "فايسبوك" حملة "ديتوكس إلكتروني" وشاركوا تجاربهم في التقليل من استخدام مواقع التواصل الاجتماعي ومشاهدة مقاطع "ريلز"، محاولين التأثير في المتلقي بالتعرض لبعض النقاط الإيجابية التي سجلوها خصوصا فيما يتعلق بالنوم المبكر والصفاء الذهني.
الباحث في الإعلام الجديد عبد العالي زواغي
من المؤشرات الأولى على مساوئ البيئة الافتراضية
يقول الكاتب والباحث في مجال الإعلام والإعلام الجديد، الدكتور عبد العالي زواغي، إن هناك فكرا يحتفي بشكل جارف بما يسمى"ميثولوجيا التقنية"، رافق بزوغ منصات التواصل الاجتماعي، وأسبغ عليها كما هائلا من "الكرامات" و"الأساطير" و المزايا الفريدة التي لم يسبق لها مثيل في حقل التواصل وخدمة البشرية.
والحقيقة أنها كذلك كما أردف، لأنها غيرت طرق تواصلنا و طرق إنتاجنا واستهلاكنا للمعلومة من خلال التشبيك المعقد للمستخدمين، وغنى وجاذبية المحتوى الذي بات يجذب إليه الكبار والصغار لسهولة وسرعة الوصول إليه" الآن وفي أي مكان".
لكن مع الوقت، بدأت البيئة الافتراضية حسبه، تكشف عن مساوئها وعن النقاط العمياء التي لم نكن نراها في آلية عمل منصات التواصل الاجتماعي، وتكشفت الحُجب مُسفرة عن الكثير من الأضرار والآثار السلبية والخطيرة التي تنجر وراء الإيغال في استخدام هذه المنصات والإدمان عليها، لاسيما وأن أغلب المستخدمين، حسب الدراسات يقضون ما نسبته 60% من الوقت على الإنترنت في تصفح مواقع التواصل الاجتماعي والتعرض لمحتوياتها لساعات طويلة.
المنصات التفاعلية فخ سقطت فيه البشرية
وأوضح الباحث، أن هذا الإدمان في استهلاك المحتوى الرقمي، دفع العالم "زيغمونت باومان" صاحب سلسلة كتب "السوائل"، إلى اعتبار المنصات التفاعلية بمثابة فخ سقطت فيه البشرية، وباتت تُطحن بين فكيه. وقد أضحت التأثيرات النفسية والإدراكية تلقي بظلالها بشكل كثيف على الدراسات التي تتعرض للاستخدامات المفرطة واللاعقلانية لمنصات التواصل الاجتماعي، وباتت هذه الدراسات تميط اللثام عن الكثير من أجزاء السلالة المفاهيمية المرتبطة بالبيئة الافتراضية، التي صرنا نحيا فيها وننغمس في عيش تفاصيلها بشكل مكثف، مع كل تلك التغيرات الجذرية التي استتبعتها.
كما أشار زواغي، إلى بروز واحد من هذه المفاهيم قبل عام من الآن 2024، في الأوساط الأكاديمية، بعد أن اختارت جامعة أكسفورد مفهوما مثيرا للجدل يدعى"تعفن الدماغ"-(Brain rot) واعتبرته "كلمة العام"، والذي يحمل دلالة مفزعة تدعو للتمعن جيدا في المآلات الخطيرة التي يقود إليها الإدمان على "الريلز"، و مقاطع الفيديو القصيرة على عقولنا، والتي باتت حجر الزاوية وقطب الرحى في آلية عمل المنصات الاجتماعية وفي تصميم واجهة المستخدم وتعزيز تجربة الاستخدام.
وفي الحقيقة حسبه، يرتبط مفهوم "تعفن الدماغ" بصورة دقيقة بالمحتوى التافه والسطحي الخالي من أي فائدة أو جودة، ولا يضيف أي جديد للمستخدم ولملكاته الإدراكية، بل بالعكس تماما، فهو يؤدي إلى التدهور التدريجي لقدراته الذهنية وصحته النفسية، وتشتيت تركيزه، وإعاقة تفكيره النقدي وخفض قدرته الإبداعية، وتراجع مهارته الاجتماعية وقلة تفاعله مع واقعه الحقيقي.
وأوضح، أن الفرد صار منهمكا في تصفح المحتوى الرقمي على الشاشات، لاسيما الهاتف النقال الذي بات بمثابة امتداد لجسد الإنسان يختزل العالم بأسره من خلاله، وتمرير مقاطع الفيديو بأصبعه صعودا وهبوطا، والمفارقة الساخرة أن الحضارة الرقمية هي حضارة الأصبع بالأساس، على اعتبار أن كلمة رقمي(Digital) مشتقة من الجذر اللاتيني(Digitus) والتي تعني الأصبع، بحسب "يوخن هوريش"، المفكر وأستاذ الدراسات الألمانية الحديثة وتحليل وسائل الإعلام بجامعة "مانهايم".
وهذه التأثيرات وإن كانت في البداية عرضية وغير مقصودة من طرف شركات التقنية الكبرى كما قال الباحث في الإعلام الجديد، إلا أن هذه المؤسسات بعد تنامي سوق "البيانات الضخمة" وازدهار"اقتصاد الانتباه"، و طغيان الإيديولوجيات المحركة لمُلَّاكها، مالت إلى توظيف أذكى للخوارزميات وتقنيات الذكاء الاصطناعي، من أجل "تلحيم" ملايين المستخدمين بالشاشات وجعلهم يقضون وقتا أطول في تصفح ما تعرضه المنصات الاجتماعية، واستهلاك المحتوى السطحي الذي صارت تشجعه الخوارزميات وتمنحه أفضلية الظهور.
هكذا توظف النظريات النفسية للتحكم في عقول المستخدمين
كما أشار كذلك، إلى استخدام نظريات نفسية للتحكم في عقول المستخدمين وشدهم إلى الاستغراق في هذا المحتوى، لاسيما نظرية "المنعكس الشرطي" لبافلوف، من خلال المحفز والمكافأة، وتغذية المخ بدفق الكثير من الأدرينالين فيه، ما يقوده إلى الإدمان ضمن دائرة لا نهاية لها من المحتوى السطحي والتافه.
والغرض من ذلك كله حسب الباحث، يتجلى في إشاعة "عقل بدائي" لدى المستخدمين، منزوع الملكات النقدية والفكرية، ولهاث منفلت يجري وراء نزوات النفس وغرائزها وأوهامها، وهو المدخل الذي سهل على شركات التقنية جر المستخدمين كقطيع منظم، كأن على أعينهم غشاوة، والتأثير على توجهاتهم وسلوكهم واستغلالهم لأغراض شتى، اقتصادية وأمنية وسياسية.
وأضاف عبد العالي زواغي أن الشبكات كما يذكر "نيكولاس كار" في كتابه "السطحيون، ماذا تفعله شبكة الأنترنت بأدمغتنا"، تقدم أنواعا من المحفزات الحسية والإدراكية، وهي المحفزات المتكررة والمكثفة والتفاعلية، وذات المفعول الإدماني، وهي على وجه التحديد محفزات أثبتت أنها تفضي إلى تغييرات قوية وسريعة في دارات الدماغ و وظائفه، فضوضاء المحفزات في الشبكة تعيق التفكير الواعي واللاواعي على حد سواء، وتمنع عقولنا من التفكير المتعمق أو الإبداعي. وبهده الطريقة تتحول أدمغتنا إلى وحدات بسيطة لمعالجة الإشارات، تقود المعلومات بسرعة إلى العقل الواعي ومن ثم إلى خارجه مرة أخرى. وحسبه، فإن انتشار المحتوى التافه الذي يدمر الملكات العقلية والإدراكية على منصات التواصل الاجتماعي، ويسجن الأفراد في فقاعات رقمية، يجعل انقيادهم سهلا ويسيرا على الشركات التقنية، خصوصا وأن لكل منصة أيديولوجية محددة، فمنصة "تيك توك" مثلا، تستخدم خوارزميات "خيِّرة" خاصة بالصين، بحيث تتيح فقط ظهور الفيديوهات المحفزة والإيجابية التي تعود بالفائدة على المستخدمين الصينيين، لاسيما الأطفال والشباب، بينما تستخدم خوارزميات "شريرة" خاصة بالمحتوى الذي يتعرض له شباب وأطفال بقية العالم، والذي يكون غالبا تافها ومُوجها.
والهدف حسبه، هو جعل النشء الصيني في الريادة من خلال حماية عقله من المحتوى الضار وتعزيز إدراكاته وتحفيزها. أما المنصات الأخرى، فزيادة على المنافع والأرباح التي تجنيها من سوق البيانات الضخمة، فهي تعمل على تقليص التفكير النقدي لدى المستخدمين واستخدامهم كبيادق على رقعة الشطرنج الثقافي، والسياسي، والحضاري والأمني، فغياب الملكات العقلية وانحسار الاتزان النفسي، يفرز أجيالا ضعيفة ومهتزة، يمكن التحكم فيها بسهولة وتوجيهها بكل يسر حسب ما تقتضيه الأيديولوجية الثاوية خلف هذه المنصة أو تلك.
وفي النهاية يقول زواغي، إن عوالم المنصات الاجتماعية هي في الحقيقة حرب ظل قائمة على سرقة النشء والتحكم في ملكاته العقلية، لأن لب الصراع يدور حول العقول، من يتحكم فيها يسيطر على العالم، وأي أمة تتعرض أجيالها اليافعة إلى عمليات غسيل دماغ و "قتل" للمهارات الإدراكية والنفسية والاجتماعية، فمستقبلها مهدد بشكل جدي ومحسوس.
إ-ك/ هـ-ط