تعتقد الكاتبة والباحثة والناقدة الدكتورة فريدة إبراهيم أنّ هناك علاقة أكيدة تجمع الأدب الجزائري بالتراث، موضحةً أنّ التجربة الروائية العربية الجزائرية -رغم حداثة نشأتها- أظهرت نقلة نوعية، باِنفتاحها على الموروث السرديّ العربيّ والعالميّ باِعتباره منجماً زاخراً بالعطاء، حيثُ اِستمد منه الكاتب العديد من الأشكال التعبيرية المُتنوعة كالشكل الحكائيّ والعجائبيّ والأسطوريّ.
كما أسهمت مرونة الرواية، وفق الدكتورة إبراهيم، في تقبّل مختلف الأجناس والأنواع الأخرى وتفاعلت معها فنتجَ من ذلك ضخّ روح جديدة في نسغ الرواية الجزائرية التي بدأت بوادرها تتشكّل لتثبت أصالتها ضمن خارطة السرد الروائيّ العربيّ الحديث. كما تحدثت صاحبة كِتاب "زمن المحنة في سرد الكاتبة الجزائرية"، عن سرد ومنجز الكاتبة الجزائرية، وعن شؤون أخرى ذات صلة بهذا المحور.
حوار: نـوّارة لحـرش
للإشارة، فريدة إبراهيم كاتبة وباحثة مُتخصصة في النقد والأدب، أصدرت مجموعة من الدراسات والمقالات والكُتب النقدية والأدبية، من بينها كِتاب "زمن المحنة في سرد الكاتبة الجزائرية". وفي الرواية، أصدرت: "أحلام مدينة"، عن منشورات ضفاف/لبنان، منشورات الاختلاف/الجزائر. و"ما تبقى من الحنين".
التجربة الروائية الجزائرية أظهرت نقلةً نوعية باِنفتاحها على الموروث السردي العربي والعالمي
تكاد تكون العلاقة بين الأدب والتراث، أبدية. فكيف هي برأيك مُميزات وإشكالات علاقة الأدب الجزائري بالتراث؟
فريدة إبراهيم: أظهرت التجربة الأدبية، وعلى وجه الخصوص التجربة الروائية العربية الجزائرية -رغم حداثة نشأتها- نقلةً نوعية، باِنفتاحها على الموروث السردي العربي والعالمي باِعتباره منجمًا زاخراً بالعطاء، حيثُ اِستمد منه الكاتب العديد من الأشكال التعبيرية المُتنوعة كالشكل الحكائي والعجائبي والأسطوري.. وهو ما تجلّى في بعض روايات الطاهر وطار وواسيني الأعرج، التي تُعتبر من أوائل التجارب التي غرست بذور التُراث في خلايا النص، واستوعبت بنياته الدالة عبر التفاعل على مستوى الشكل والمضمون، بغية التخلص من جمود السرد التقليدي، كما أسهمت مرونة الرواية في تقبل مُختلف الأجناس والأنواع الأخرى وتفاعلت معها فنتجَ عن ذلك ضخّ روح جديدة في نسغ الرواية الجزائرية التي بدأت بوادرها تتشكل لتُثبت أصالتها ضمن خارطة السرد الروائي العربي الحديث.
لا يمكننا الحديث عن توظيف التُراث في الرواية الجزائرية بصورة واسعة تجعله ميزة فيها
ما مدى حضور التُراث في النص الأدبي الجزائري؟ وكيف تَمَ توظيفه؟
فريدة إبراهيم: لا يمكننا الحديث عن توظيف التُراث في الرواية الجزائرية بصورة واسعة تجعله ميزة فيها، إذ لم يحدث التراكم الكمي لهذا النمط من السرد، ولا يمكننا أن نجد منه إلاّ القليل الّذي وُظِفَ بصورة ناضجة، وقد يعود السبب إلى صعوبة توظيفه، إذ يتطلب قدرات فنيّة كبيرة لدى المُؤلف وتجربة وخبرة، لكي لا يبدو توظيفه كعنصر دخيل لا وظيفة فنية له في بنية السرد، ويمكننا الحديث أيضًا، عن تقصير أو إهمال في الاِستعانة بالتُراث كبنيات نصية كُلية أو جزئية في السرد المُعاصر. رغم ذلك نجد بعض الروايات التي وَظَفَت التُراث، من خلال التفاعل مع مضمون نصوصه أو اِستلهام أشكاله الفنية واستغلال مقوماتها الإبداعية لتشييد نص روائي جديد، كما تَجلّى في "فاجعة الليلة السابعة بعد الألف" لواسيني الأعرج، وهي من أوائل الروايات التي وظفت عن وعي التُراث بأنواعه، إذ تمّ اِستلهام الشكل الفني لحكايات "ألف ليلة وليلة"، في إطار تفاعل النصوص، ولم يكن الهدف الوحيد للتفاعل النصي؛ تحقيق الشرط الجمالي للرواية، بل صدر عن ذات واعية تُدرك اِمتداد الحاضر في الماضي.
هل يستثمر الكاتب في التراث ويُوظفه في نصوصه الأدبية، اِنطلاقاً من علاقته بالتُراث، أم اِنطلاقًا من قناعاته بأنّ التُراث هو مصدر إلهام ومن الضروري اِستدعاؤه إلى النصوص؟
فريدة إبراهيم: لم يأتِ توظيف التُراث في الرواية الجزائرية صدفةً، ولم يكن مُنعزلاً عن التطوّر الّذي شهدته الرواية العربية عمومًا، على المستوى الفني والمضموني في مرحلة ما بعد هزيمة 1967 التي أحدثت خللاً في المجتمع العربي، مِمَّا حَفَزَ الروائيين على الغوص في تُراثهم الغني بصور الشجاعة والقوّة والحكمة، فشهدت الرواية اِستحداث أشكال سردية تُعبِر عن الحاضر وتُؤصِّل للنص الروائي الجديد، لذلك يمكن القول: إنّ توظيف التُراث في بعض الروايات الجزائرية كان توظيفًا واعيًا يهدفُ إلى إثبات الذات من خلال اِلتحامها بموروثها الأصيل والغني، فضلاً عن إيجاد أشكال سردية جديدة تستوعبُ التغيرات المجتمعية وتُعَبِرُ عن واقعها خاصةً في فترة ما بعد ثمانينيات القرن الماضي، على سبيل المُغايرة للأشكال السائدة التي جعلت الرواية مرآة عاكسة لنمط سردي واحد، تُهيمنُ عليه الأيديولوجية التي سلبت الرواية فنيّتها في فترة السبعينيات. ولا يتأتَى ذلك إلاّ بوعي الكاتب وقدرته على اِستيعاب موروثه القديم، ويُمكننا تلمّس ذلك في روايات الحبيب السائح وواسيني الأعرج والطاهر وطار.
تعامل بعض النصوص
الروائية مع عنصر
الزمن مازال في صورته
الكرونولوجية البسيطة
التفاوت في المستوى الفني وكذا التراكم المعرفي و"التجاربي" يظهرُ جليًا لدى بعض الكاتبات
على ذكرك لأدب السايح والأعرج و وطار. هل السرد الجزائري بِمَّا فيه المكتوب من طرف المرأة قاربَ الأزمة أدبيًا وفنيًا وجماليًا، خاصةً وأنكِ قد أصدرتِ كتابًا في هذا الموضوع: "زمن المحنة في سرد الكاتبة الجزائرية"، والذي (تناولتِ من خلاله أربع روايات تطرح موضوعة الإرهاب، هي: فوضى الحواس، في الجبة لا أحد، تاء الخجل، وطن من زجاج).
فريدة إبراهيم: من المُجحف أن أحكم على كلّ المُنجز الروائي الّذي كَتبتهُ المرأة، والّذي قارب الأزمة في الجزائر، لكن لا بدّ أن أُشير إلى تلك النصوص التي اِستطاعت وإن بتفاوت أن تُقارب الأزمة بفنية وجمالية عالية من ذلك "فوضى الحواس" التي قاربت الموضوع بتقنية سردية عالية.
بعيدًا عن المُفاضلة، وانطلاقًا من أنّ كلّ النصوص قابلة للتحليل السردي، كما يقر بذلك عِلم السرد الّذي يسعى إلى اِستخراج القوانين التي تمنحُ النص دلالته، وتُحَقِّق لعِلم السرد شرط علميته التي لا تعترف بأدب "رفيع" وآخر "متواضع"، فلقد حاولتُ في كتابي تلمس، أو اِستشراف مكامن الجمال، ومحاولة التعرف على مدى اِستفادة الكاتبات من التقنية السردية، من خلال موضوعة الإرهاب التي اِشتركت فيها المدونة الروائية، لكن طريقة تناول هذا الموضوع كان مُختلفًا، هذا الاِختلاف يُظهرُ جليًا التفاوت في المستوى الفني، وكذا التراكم المعرفي و"التجاربي" لدى بعض الكاتبات، وفقدانه لدى البعض الآخر.
ففي الحين الّذي نجد فيه نصًا كـ"في الجبةِ لا أحد" قد أفرطَ في سرد الواقع بتقريرية فاضحة، وأحيانًا مُملة لأنّها تخلو من التشويق، ومن عناصر السرد الروائي، كالتخييل. كما أنّها تخلو من تلك اللّغة السردية الجميلة، التي تُحافظ على ذلك الخيط الرفيع الفاصل بين لغة الشِّعر ولغة النثر، بمعنى أنّها تمنحُ للقارئ تلك المسافة "المُمتعة"، إن صحَ هذا التعبير.
في مقابل ذلك نجد نصوصًا أخرى قد اِستطاعت أن تُقدم "حكاية" بتقنية عالية، مستفيدة في ذلك من عناصر السرد، مُحقّقة سبب وجود الرواية، أي "أن تقول شيئًا لا يمكن أن تقوله سوى الرواية"، هذا ما نجده في الروايات الباقية (التي ضَمَهَا الكِتاب)، ولكن بنسب مُتفاوتة كذلك، حيثُ اِستطاعت "فوضى الحواس" أن تُعالج الراهن بسردية تلغي التطابق المُباشر، وبلغة شِعريّة سرديّة، مع توّفر عنصر التشويق، الُذي يُحافظ على روح الرواية.
هناك سلطة تُفرض على المرأة بمسميات ومرجعيات مختلفة تتسبب في تراجع إبداعها
وكيفَ وجدتِ زمن المحنة في سرد الكاتبات، وبالموازاة ما هي محنة سرد الكاتبة الجزائرية؟
فريدة إبراهيم: إنّ اِقتران الزمن بالمحنة، يُحيلنا بالضرورة على زمن مُختلف عن أي زمنٍ آخر، فزمن المحنة هو زمن المأساة، زمن اللا أمن، زمن الفجيعة. لقد اِنطلق الإحساس بالزمن في المُدونة الروائية التي ضمها الكِتاب، من الواقع اليومي المُعاش، ليتجه صوب الداخل النفسي في حركة تداخل واضطراب، أنتجت ذاتًا مضطربة تحس بالهزيمة والضياع والتشظي. ورغم محاولة الذات الساردة اِستعادة الماضي للتخفيف من وطأة الحاضر المُفجع، إلاّ أنّ الزمن المُستعاد تراوح هو الآخر، بين أريحية ماضٍ مُقدس وماضٍ مُضطرب، ما أدى بالشخصية إلى تلمس تخوم الحلم، للبحث عن مستقبل. لكن هذا المُستقبل لم يكن إلاّ وليد فوضى الحاضر. وعندما نتكلم عن الإحساس بالزمن في المدونة الروائية، فإنّنا نلمس تفاوتًا ملحوظًا من رواية إلى أخرى، ففي "فوضى الحواس" يُبهرنا السرد بذلك المعمار الدائري الّذي يُعلن اِستمرار الحدث ودورانه. أي اِستمرار دوران زمن الفجيعة والموت.
أمّا الشق الثاني من السؤال، فحسب ما فهمت، فهو يُحيلنا على المشاكل التي تُعانيها الكَاتِبات في الجزائر، وهي محنة في حد ذاتها، مُتأصلة الجذور ومتشعبة في مجتمع مُثقل بالتقاليد والعادات، التي تقهر المرأة المُثقفة عمومًا، والمُبدعة خصوصًا. يحضرني في هذا المقام قول الكاتبة "زهور ونيسي" التي اعتبرت أنّ المرأة ما تزال ذلك الهامش الّذي يُقَدَسُ تارةً ويُستعبدُ تارةً أخرى، وذلك حسب المنفعة والمفهوم الضيق للشرف. ومن ثم فإنّ أهم مشكل عانت منه الكاتبة ومازالت تُعانيه، هو ما أسميه "سلطة العيب" في مجتمع ذكوري، كغيره من المجتمعات العربية الأخرى، هذه السلطة التي تفرض على المرأة بمسميات ومرجعيات مختلفة تتسبب في تراجع إبداع المرأة خصوصًا، كما تؤدي هذه النظرة إلى اِنطواء بعض الكَاتِبات بل واختفاء الكثيرات منهن، واستسلامهن للواقع المفروض عليهن. هذا بالإضافة إلى مشاكل أخرى تشترك فيها الكاتبة مع الكُتّاب الجزائريين عمومًا، كصعوبة النشر والتوزيع، وركود الحركة النقدية الجادة، التي تسهم في تطوير الحركة الإبداعية في الجزائر.