الثلاثاء 19 أوت 2025 الموافق لـ 24 صفر 1447
Accueil Top Pub

أزمة العقل في مواجهة الذكاء الاصطناعي

يمر العقل البشري بأزمة وجودية غير مسبوقة أمام تصاعد قدرات الذكاء الاصطناعي، الذي بات لا يقتصر على المهام التقنية، بل يغزو مجالات التفكير، الإبداع، واتخاذ القرار،ولم تعد الآلة مجرد أداة تنفيذ، بل أصبحت شريكا معرفيا في إنتاج النصوص، تحليل المعطيات، وصياغة التنبؤات، وفي ظل هذا التحول الجذري، يبرز سؤال محوري: هل ما زال العقل الإنساني يحتفظ بمكانته كمرجعية عليا للفهم والمعنى، أم أنه أصبح مهددا بفقدان وظيفته الأساسية؟

أ.د رقية بوسنان

عقل محدود أمام ذكاء لا يعي ولا يشعر؟
يعتمد الذكاء الاصطناعي على معالجة كميات ضخمة من البيانات لاستخراج الأنماط، التوقعات، والاستجابات، وهو ما يمنحه قدرة مذهلة على محاكاة السلوك البشري في العديد من المجالات، مثل الكتابة، الترجمة، والرؤية الحاسوبية، غير أن هذا "الذكاء" لا ينبع من وعي أو إدراك، بل من حساب احتمالي خالص لا يتضمن أي نوع من الفهم الذاتي أو القصد المعنوي، و هنا تظهر المفارقة الكبرى: كيف يمكن لكيان لا يعي ذاته، ولا يفهم ما ينتجه، أن ينجز مهاما كانت يوما حكرا على العقل الإنساني الواعي؟ في جوهره، الذكاء الاصطناعي اليوم هو ذكاء من دون ذات، كما يسميه الفيلسوف الألماني توماس ميتزنغر،أي أنه ينتج أفعالا ذات مظهر عقلاني دون أن تكون ناتجة عن "أنا" واع أو مركز إدراكي مستقل.
«أنظمة الذكاء الاصطناعي قادرة على إنشاء محتوى لغوي معقّد، لكنها تفتقر إلى التأويل الذاتي أو الفهم المعنوي لما تنتجه. إنها تصيب، لكنها لا تدري لماذا»
يتميز العقل البشري في المقابل، - رغم محدوديته البيولوجية وضعف قدرته على المعالجة الكمية - بامتلاكه الحدس، الشعور، والقدرة على التأمل الأخلاقي والمعنوي،هذه الخصائص تجعل منه ليس فقط أداة تحليل، بل كيانا معنويا يربط المعلومات بالقيم والسياقات الإنسانية، وبحسب جون سيرل، فالذكاء الاصطناعي لا يملك ما يُعرف بـ"القصدية"، أي القدرة على ربط الرموز التي يعالجها بمعاني حقيقية في العالم، ومثاله الشهير "غرفة الصيني" الذي يوضح أن الآلة قد تعالج اللغة الصينية بشكل مثالي من دون أن "تفهم" كلمة واحدة منها، لأن المعالجة لا تعني الفهم، وبالتالي، فإن هذه الفجوة بين القدرة على المعالجة والوعي بالمعنى، تفتح مجالا لتساؤل فلسفي عميق:هل الإدراك مجرد نتيجة لحسابات معقدة، أم أن هناك "شيئا زائدا" لا يمكن رقمنته؟وهل يمكن للعقل البشري أن يظل مرجعية للمعنى، رغم تفوق الآلة في بعض المهام؟ ويشير دايفيد تشالمرز إلى أن ما يعرف بـ"المشكلة الصعبة للوعي"، لا تزال قائمة، وهي تتعلق بكيف ولماذا تظهر الخبرات الذاتية من العمليات الدماغية، وهي مشكلة لم يقترب الذكاء الاصطناعي من حلها، لأنه لا يملك خبرة ذاتية أصلا.
أزمة المعنى في عصر الخوارزميات
في عالم يعاد تشكيله بالخوارزميات، تواجه الإنسانية أزمة جوهرية تتجاوز حدود التقنية والأداء: إنها أزمة المعنى، فرغم ما حققته أنظمة الذكاء الاصطناعي من كفاءة مذهلة في المحاكاة والإنتاج، فإنها تظل عاجزة عن إدراك ما تنتجه أو مساءلته. فهي لا "تفهم" النصوص أو الصور أو الألحان، بل تعالجها عبر تحليل احتمالات إحصائية مستخلصة من كميات ضخمة من البيانات، هذا الفارق الجوهري هو ما يسميه الفيلسوف الأمريكي كولين ألين بـ"الإبداع الخالي من التأويل"، وهو نمط من الإنتاج يبدو مبتكرا شكليا لكنه خارج إطار الفهم الواعي أو القصد المعرفي،فالآلة قد تولد قصيدة أو لوحة أو مقالة، لكنها لا تعرف لماذا، ولا ما دلالات ما أبدعته، بينما تجيد الآلة توليد الإجابات، فإن العقل البشري وحده هو من يطرح الأسئلة، فالسؤال عند الإنسان ليس مجرد فضول عابر، بل قلق وجودي وتأملي يعكس انخراطه في فهم ذاته والعالم،والعقل لا يكتفي بالإجابات الصحيحة، بل يسعى إلى المعاني العميقة، إلى الغاية، إلى "لماذا" و"من نحن"، وهي أسئلة خارج نطاق قدرة أي خوارزمية، هذا ما أشار إليه بول ريكور حين تحدث عن "الإنسان ككائن تأويلي"، أي أنه يعيش داخل شبكة من المعاني الرمزية التي تعاش وتفهم وتتجاوز اللغة الصريحة)، أما الذكاء الاصطناعي، فيتوقف عند حدود الشكل، ولا يتجاوزها نحو المعنى أو السياق الوجودي، وهنا تكمن أزمة المعنى، فحين تصبح الخوارزميات هي التي تنتج النصوص والصور والخطط وحتى القرارات، يخسر الإنسان لحظة التأويل، ويتحول العالم إلى فضاء ممتلئ بالرموز، لكنه خال من العمق، ويخشى بعض الباحثين أن يؤدي هذا إلى ابتذال الحقيقة، أي الاكتفاء بما هو ممكن تقنيا على حساب ما هو صادق أو ضروري إنسانيا،كما يشير المفكر الإيطالي ماوريتسيو فيرولي إلى أن هذا النمط من "الذكاء العديم المعنى" قد يؤدي إلى تشكيل ثقافة تستبدل الحكمة بالمعلومة، والمعنى بالكفاءة، والتأمل بالسرعة،وبذلك، يتحول الإنسان من باحث عن الحقيقة إلى مستهلك للنتائج.
من «ذكاء بلا ذات» إلى «اغتراب معرفي»: حين يفقد العقل صوته
إذا كانت الآلة تنتج مخرجات عقلانية دون وعي، فإن الخطر لا يكمن فقط في هذا "الذكاء بلا ذات"، بل في ما يترتب عليه من تحول في دور العقل البشري من منتج للمعرفة إلى مستهلك سلبي لها، فمع الاعتماد المتزايد على أنظمة الذكاء الاصطناعي في التفسير، التحليل، والتوصية، يصبح الإنسان تدريجيا مهمشا في دورة إنتاج المعنى، ويستبدل اجتهاده التأويلي بخوارزميات لا تعي ما تقرره، هذه الحالة تعيد إلى الواجهة مفهوم "الاغتراب"كما صاغه كارل ماركس في سياق العمل، لكن بصيغة جديدة تتعلق بـالاغتراب المعرفي،حيث لم يعد الإنسان مغتربا عن نتاج يده فحسب، بل عن نتاج عقله، حينها يصبح هذا النتاج محكوما بتوصيات أنظمة لا يشارك في برمجتها، ولا يفهم منطقها الداخلي، يشير كارل إلى أن التبعية المتزايدة للخوارزميات قد تؤدي إلى انحدار إدراكي، حيث يتنازل الإنسان عن قدرته على التحليل والنقد لصالح نتائج جاهزة سريعة، وبهذا المعنى، تصبح الراحة التقنية على حساب العمق الفكري،كما يحذر شوشانا زوبوف من أن "الذكاء الاصطناعي لا يراقبنا فقط، بل يعيد تشكيل سلوكنا تدريجيا وفق منطق لا نفهمه، في سياق ما تسميه رأسمالية المراقبة، مما يضيف بعدا سياسيا وثقافيا لحالة الاغتراب، إننا نعيش عصرا يمكن فيه للآلةأن تنتج خطابا، ترسم لوحة، تلحن موسيقى، وتقترح قرارات، ولكنها تفعل كل ذلك من دون معنى حقيقي، ومن دون وعي بالنتائج في هذا السياق، يصبح الإنسان لا مجرد مستخدم للأدوات، بل أداة داخل نظام أكبر لا يسيطر عليه بالكامل.
الحاجة إلى عقل نقدي لا تنافسي
في ظل التقدم المذهل لأنظمة الذكاء الاصطناعي، سادت نزعة تنافسية مبطنة بين الإنسان والآلة، وكأن العقل البشري في سباق وجودي مع قدرات اصطناعية تهدد بتجاوزه، غير أن هذه المقاربة التنافسية، رغم ما تحمله من مشروعية نفسية وثقافية، قد تكون مضللة وخطيرة في آن واحد، لأنها تفترض أن العقل البشري والذكاء الاصطناعي يعملان في نفس الحقل وبنفس الشروط، وهو ما يتجاهل الفروق الجوهرية بينهمان وفي الواقع لا يجب أن يفهم الذكاء الاصطناعي كبديل عن العقل، بل كامتداد لأدواته، ما يدعو إلى عقل نقدي وتأويلي لا يقف عند حدود المقارنة، بل يعيد تعريف دوره في ضوء هذه الثورة التكنولوجية، يشير الفيلسوف الأمريكي دانيال دينيت إلى ضرورة عدم الوقوع في فخ الإعجاب الأعمى أو الذعر غير العقلاني، مؤكدا أن مهمة العقل البشري اليوم ليست أن ينافس الذكاء الاصطناعي، بل أن يفهمه،
«حين تصبح الآلة قادرة على كتابة التقارير والقصائد والخطب، وتحل المشكلات، ما الذي يتبقى للصحفي والشاعر والخطيب، وعالم الاجتماع»
يراقبه، ويستخدمه ضمن أطر أخلاقية وفكرية واعية، بمعنى آخر، لا تنبع خطورة الذكاء الاصطناعي من قدرته، بل من غياب عقل بشري ناقد يواكبه ويضعه في سياقه الصحيح،وما نحتاجه هو عقل تأويلي قادر على فهم المعطى التقني دون الخضوع له، يطرح الأسئلة لا فقط يستقبل الأجوبة، ويميز بين ما هو نافع معرفيا وما هو مجرد استعراض كمي، وهذا ما يشير إليه يورغن هابرماس في نقده للتقنية الحديثة، حيث يرى أن سيطرة المنظومات التقنية دون إطار تأويلي أو أخلاقي يؤدي إلى عقلانية أداتية تفقد صلتها بالمعنى الإنساني،أي أننا ننتج وسائل ذكية، لكننا نفشل في ربطها بحوار مجتمعي عقلاني يحدد غاياتها وأخلاقياتها، من هنا، تأتي الحاجة إلى مراجعة مفهوم العقل، ليس كمصدر للمعرفة فقط، بل كسلطة نقد وتأويل وتوجيه. ويتطلب ذلك تربية فكرية جديدة تعيد للإنسان وعيه بموقعه داخل المنظومة المعرفية، وتجعل من الذكاء الاصطناعي شريكًا في التفكير، لا حاكمًا عليه أو بديلا عنه، إن العقل النقدي لا يرى في الذكاء الاصطناعي خصما، بل مرآة جديدة يختبر فيها حدود قدرته، ومجالًا لتجديد أدواته ومفاهيمه. وهو ما يُحيلنا إلى إعادة تعريف الذكاء البشري ذاته، لا من حيث ما ينتجه كمخرجات، بل من حيث ما يطرحه من أسئلة، وما يضفيه من معنى.
«الذكاء البشري يجب أن يوظف لفهم الذكاء الاصطناعي، لا أن يستبدل به،والمشكلة ليست في الآلة، بل في الإنسان الذي يتنازل عن دوره النقدي أمامها»
يمكن التأكيد في النهاية أن أزمة العقل في مواجهة الذكاء الاصطناعي ليست صراعا مباشرا بين الإنسان والآلة، كما يروج لها في كثير من الخطابات الإعلامية والتكنولوجية، بل هي تجربة وجودية وفكرية يعيد فيها الإنسان النظر في ذاته من خلال مرآة الآخر الرقمي، فالآلة ليست عدوا، بل "انعكاسا مشوّها" لإمكاناتنا العقلية التي فصلناها عن الجسد، عن الشعور، وعن السياق، وحقناها في خوارزميات جافة لا تعرف التأمل، هذه الأزمة تفرض علينا إعادة طرح الأسئلة الفلسفية الكبرى التي انشغل بها الفكر الإنساني منذ أرسطو حتى هايدغر:ما معنى أن نعرف؟، ما الذي يمنح المعرفة قيمتها؟، وهل يمكن للذكاء أن يوجد بلا وعي، وللمعرفة أن تنتج دون شعور؟،
"أنظمة الذكاء الاصطناعي المعاصرة قادرة على محاكاة فهم اللغة الطبيعية، لكنها لا تمتلك أي تجربة شعورية ولا تمثل ما تنتجه داخليا"
وفي عصر تسارع الأجوبة بفضل الذكاء الاصطناعي، تتضاءل مساحات التريث والتفكير التأملي، إذ يتم استبدال الرحلة الفكرية المختبرة بنتائج فورية قد تكون صحيحة ظاهريا، لكنها فارغة معنويا، وما يثير القلق أن الإنسان بدأ يتكيّف مع هذا النمط السريع، لدرجة أنه لم يعد يطرح الأسئلة بقدر ما يبحث عن إجابة مقنعة وسريعة، حتى وإن كانت غير مفهومة، هنا يبرز السؤال المحوري الذي يجب أن نطرحه:ما الذي يجب أن يظل من اختصاص الإنسان؟، الإجابة ليست تقنية، بل فلسفية وقيمية، فالمجالات التي يفترض أن تبقى إنسانية بامتياز هي تلك التي تعتمد على:الوعي الأخلاقي، النية التأويلية، القدرة على الشعور بالمسؤولية، الإحساس بالزمن والمعنى، الحرية في الاختيار ضمن التعقيد القيمي، وكما أشار الفيلسوف هانس يوناس، فإن أخطر ما تفعله التقنية الحديثة هو أنها تنتج الفعل من دون نية، والنتيجة من دون مسؤولية، والذكاء الاصطناعي، في صورته الحالية، يُجسد هذه المفارقة بدقة: أدوات تصنع الكثير، لكنها لا "تعني" شيئًا مما تصنع، إننا بحاجة إلى مشروع إنساني جديد لا يرفض الذكاء الاصطناعي، بل يعيد تعريف دوره، ليس بوصفه منافسا للعقل، بل كأداة ضمن مشروع تأويلي أكبر، يبقي للإنسان سلطته على الأسئلة، لا فقط على الأجوبة، فحين نفقد السؤال، نفقد الحرية، ونصبح مجرد مفعول به في جمل تكتبها أنظمة لا تعي، ولا تشعر بل تدفع على الاغتراب الفكري.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com