أجرى فريق بحث جزائري ناشط تحت مسمى "تصميم منتجات غذائية جديدة"، دراسة علمية شاملة حول مكون طبيعي من المطبخ الجزائري يعرف بـ "ذرنات نبات أيرني"، " أو "اللوف الإيطالي"، وقد نشرت نتائج البحث مؤخرا في مجلة "ديسكوفر فود" العلمية، ضمن عددها الصادر لسنة 2025، ما يشكل اعترافا علميا عالميا بالدراية الجزائرية في مجال الصناعات الغذائية و الزراعية.
البحث قادته الدكتورة حياة بوركوة، ضمن فريق مخبر تابع لمعهد التغذية والتغذي والتكنولوجيا الغذائية الفلاحية بجامعة قسنطينة 1، بمشاركة عدد من الباحثين من جامعات ومراكز بحث جزائرية، ويسلط الضوء على أهمية هذا النبات كمصدر غذائي عالي القيمة، ويؤكد الحاجة الملحة إلى توثيق المعارف التقليدية التي توارثها السكان الجبليون جيلا بعد جيل.
غذاء غني مهمل
وأوضحت الدكتورة بوركوة للنصر، أن الدراسة جاءت بعد العناية الكبيرة التي لاقتها النبتة في الجهة المقابلة من البحر الأبيض المتوسط من خلال التركيز على خصائصها الغذائية واستعمالاتها في المطبخ الأورومتوسطي. وقد فصل فريق البحث في خصائص النبتة التي تشكل إحدى المكونات المنسية في المطبخ التقليدي الجزائري، بحسب ما أوضحته محدثتنا، وذلك من خلال دراسة علمية معمقة حولها وتقديم كل تلك الوصفات التقليدية التي كانت تدخل في تحضيرها، بداية من "العصيدة" إلى "الكسرة".
وأوضحت قائدة الفريق أن نبتة "أيرني" التي تعتبر أحد أنواع البطاطا وتحمل تسميات مختلفة من منطقة لأخرى، كانت من بين أهم النباتات التي وفرت بديلا غذائيا مهما خلال الاستعمار وفترة الجوع، حيث تشبه نبتة "بطاطا قرنون" كما تستهلك في مناطق مختلفة مثل جيجل، وبجاية وسكيكدة، وعنابة وميلة، وحتى قسنطينة، وتباع بأسعار مرتفعة نوعا ما، باعتبارها نبتة موسمية ويصعب الوصول إليها وقطفها.
من التقاليد إلى المختبرات
تعتبر الدراسة أولى من نوعها من حيث المحتوى الواسع، انطلقت بحسب الدكتورة سنة 2022، بالتعاون مع مجموعة من طلبة الماستر، تضم علاء الدين منصوري، وآية لويفي، رفقة طالبة الدكتوراه ريان بلمولود، ليشمل العمل لاحقا عددا من الباحثين من مختلف التخصصات بينهم الأستاذة راضية عياد، وحميدة محروق، وفيروز جغيم، وأنيس شيخون.
كما يعزز العمل ديناميكية التعاون العلمي فيما بين الباحثين والمخابر، بحيث تم بالشراكة بين مختبر "آل آن تي آ" التابع لمعهد التغذية والتغذي والتكنولوجيات الغذائية الفلاحية، ومختبر "آليمونتس" التابع للمدرسة العليا في علوم التغذية والصناعات الغذائية، ومخبر علم الصيدلة وكيمياء النبات "آل بي بي" قسم الكيمياء بكلية العلوم الدقيقة والإعلام الآلي جامعة جيجل، ووحدة البحث وتثمين الموارد الطبيعية، المواد الفعالة والتحاليل الفيزيائية-الكيميائية والبيولوجية، التابعة لجامعة الإخوة منتوري قسنطينة 1.
حماية للموروث الغذائي
وتهدف الدراسة التي تندرج ضمن مسعى الحفاظ على التراث الغذائي الجزائري، إلى الاهتمام بالممارسات الغذائية التقليدية التي تعد في طريقها إلى الزوال، أين أوضحت الباحثة أن نبات "اللوف الإيطالي" لا يزال موجودا في بعض المناطق الجزائرية خاصة الجبلية منها، وتم التركيز في الدراسة على توثيق الطرق التقليدية لاستخداماته في إعداد أطباق متنوعة مثل "العصيدة المحلية "أيرني" والخبز "كسرة"، بحيث تمكن الباحثون من حفظ معارف تجريبية نادرة وفهم أفضل لأسسها العلمية.
ويؤكد هذا المشروع حسبها|، ما أسماه فريق البحث "القبول الحسي" للأطعمة التقليدية لدى المستهلكين، مما يفتح الباب أمام دمج مدروس لهذه الموارد الطبيعية في سلاسل الغذاء الحديثة.
كما يوصي بأهمية إدماج هذه الموارد الطبيعية التقليدية في الإستراتيجيات الحديثة للأمن الغذائي، وتوثيق طرق استعمالها قبل أن تندثر مع رحيل من يحملونها ويأكلونها في مطابخهم، مما يجعل من نتائج البحث مثالا حيا على إمكانية المزج بين المعرفة الشعبية والتقنيات العلمية المعاصرة لتحقيق الاستدامة وتنوع المصادر الغذائية.
خصائص غذائية مذهلة
وسمحت الدراسة العلمية التي نشرت في إحدى أكبر المجلات العلمية العالمية، بوصف الخصائص الغذائية والوظيفية لهذه الدرنات، فمسحوق الدرنة بحسب ما تظهره النتائج المخبرية، غني بالكربوهيدرات خاصة عندما يتم سحقه وتحويله إلى مسحوق ناعم يشبه نشاء الذرة، وهو ذو قيمة طاقوية عالية، كما يحتوي على نسبة من مضادات الأكسدة.
وقد توصل الباحثون إلى أن درنات "اللوف الإيطالي" تشكل مصدرا غذائيا غنيا، إذ تحتوي على نسبة عالية من الكربوهيدرات أكثر من 80 بالمائة، وتوفر طاقة تصل إلى 366.88 كيلوجول لكل 100 غرام، كما يتميز بخصائص تكنولوجية وظيفية ممتازة، كقدرتها العالية على امتصاص الماء وقابليتها الجيدة للذوبان.
وقد كشفت التحليلات الهيكلية المتقدمة كذلك، عن بنية جزيئية معقدة، مما يؤكد أهميتها المحتملة في الصناعة الغذائية الزراعية.
بحسب الدراسة، تصنع المنتجات التقليدية من عجينة مشتقة من الدرنات التي يتم غليها وطهيها بالبخار عدة مرات، وذلك لإزالة سميتها المرتبطة بوجود قلويدات وبلورات أكسالات الكالسيوم، كما أوضح البحث أنه يمكن للطهي الذي مارسته الأجيال السابقة أن يزيل سمية الدرنات، وحتى إن كانت هذه الطريقة في طهي درنات "أيرني" قد ورث شفهيا، فقد أكدت النتائج العلمية فعاليتها مما يعزز أهمية المعارف القديمة.
ثلاثة محاور رئيسية للتثمين
يرى فريق البحث أن استخدام درنات "اللوف الإيطالي" مهم في رؤية التنمية المحلية كونه يستجيب لثلاثة تحديات رئيسية، تكمن في تثمين التراث الغذائي الجزائري، من خلال تطوير منتجات صحية مستوحاة من التقاليد، وتوفير فرص اقتصادية من خلال تشجيع دمج المواد الخام الطبيعية والمتاحة في دوائر تجارية جديدة، إلى جانب تعزيز الممارسات الزراعية البيئية المحلية، وذلك من خلال دعم صغار المنتجين وتعزيز مرونة الأنظمة الغذائية.
ويساهم فريق البحث وشركاؤه من خلال هذه المبادرة بنشاط في الكشف عن تراث الطهي الجزائري وتوثيقه والحفاظ عليه من خلال دراسته علميا، وهو تراث غالبا ما يكون غير معروف، في حين أنه غني بإمكانيات تكنولوجية وغذائية وثقافية كبيرة، كما تمثل خطوة إضافية نحو اعتراف علمي عالمي بالدرنة الجزائرية في مجال الصناعات الغذائية الزراعية.
يذكر، أن هذه الفرق عملت بشكل مشترك على العديد من الأبحاث العلمية مثل تطوير منتجات خالية من الغلوتين لمرضى السيلياك وحساسية القمح في الجزائر، والحفاظ على التقنيات التقليدية لتصنيع الكسكس من الذرنة الرفيعة "سورغو فارمونطي" والبلوط المخمر "غلاند فارمونطي"، وكذا دراسة التخمير التلقائي في الصوامع التقليدية "المطمور" القائمة على البلوط والذرة الرفيعة.
إيمان زياري