تلعب الطوابع البريدية، والبطاقات التذكارية، والأوراق النقدية دور مرآة مصغرة تعكس جانبا من ملامح الأمة الجزائرية، لكونها أرشيفا بصريا يحمل في طياته تفاصيل تحولات مهمة شهدها الوطن، منها أحداث اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، وفنية تشكل مجتمعة صورة من ألبوم الذاكرة الجماعية.
لينة دلول
وحسب جامعي طوابع وبطاقات وعملات جزائريين، فإن هذه الإصدارات الصغيرة تعتبر سفيرا يعرف العالم بهذا البلد ويروي قصته ويفاخر بجماله الطبيعي و ثرائه الثقافي، ناهيك عن أنها أداة دبلوماسية ناعمة تسهم في الترويج السياحي.
تحمل رموزا وصورا غزيرة
يمكن لأي مهتم بالتاريخ الجزائري، أن يقرأ جوانب منه ولو باختصار من خلال هذه القطع الصغيرة، وذلك لأنها تحتفظ بروح اللحظة وجمالياتها البصرية، وتقدمها بلغة الرمز والصورة، ففي طابع صغير قد تجد ملامح شخصيات تاريخية صنعت المجد، من الأمير عبد القادر إلى فاطمة نسومر، ومن العربي بن مهيدي إلى مصالي الحاج.
وترى على ورقة نقدية أو بطاقة بريدية كذلك، صورا للثروات الطبيعية التي تكتنزها الجزائر، من النفط إلى الفوسفات، ومن الذهب إلى الزراعة المتوسطية، كما تتحدث هذه العملات عن التاريخ البعيد و القريب، وعن الثورات الكبرى التي انفجرت في وجه الاستعمار، وحصار قسنطينة، ومعركة إيسلي، ومقاومة بني رمسيس وأبطالها المنسيين.
كما تستعيد الطوابع والبطاقات القديمة الحياة في المقاهي الشعبية، ومشاهد الحرف التقليدية، وطقوس الأعراس، والأزياء الوطنية، والحلويات المصنوعة بعناية الأمهات، والرقصات التي توثق لحظات الفرح وغيرها.
* جامع الطوابع و العملات علاوة صغيري
هناك علاقة وثيقة بين السياسة النقدية والخطط التنموية
علاوة صغيري صاحب 66 سنة، هو واحد من بين أبرز هواة جمع العملات النقدية، والبطاقات التذكارية، والطوابع البريدية، بدأ شغفه بهذا المجال سنة 1985، وذلك إلى جانب مسيرته المهنية كمهندس معماري.
زرناه في بيته بحي زواغي بقسنطينة، أين استعرض أمامنا تشكيلته الكبيرة و الجميلة، قائلا إن ما جمعه من طوابع وعملات خلال سنوات عديدة ليست مجرد أشياء مادية، بل وثائق حية تصف فصولا من تاريخ الجزائر، وتحمل بين طياتها جزءا من الذاكرة بمحطاتها السياسية، والاجتماعية، والثقافية.
54 مجموعة نقدية منذ الاستقلال إلى يومنا
وأشار المتحدث، إلى أنه يملك مجموعة نادرة وثمينة من الأوراق النقدية التي تم تداولها في الجزائر بعد الاستقلال، يبلغ عددها 54 نوعا، وتتميز هذه الأوراق بتنوعها الرمزي والبصري، إذ تعكس محطات مهمة من تاريخ الجزائر، وتبرز مظاهر من الثقافة المحلية، على غرار المعالم الطبيعية، والحيوانات، والرموز الوطنية.
وفيما يخص البطاقات البريدية، تمكن صغيري من جمع ما يقارب 3100 بطاقة، أغلبها توثق لمدينة قسنطينة، وتبرز ملامحها وتاريخها العريق.
ويتوقف صغيري عند عملة «الدورو» التي يملك مجموعة كاملة منها، لا تنقصها سوى قطعة واحدة من فئة «خمسة دورو»، تم إصدارها في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين بين سنتي 1978 و1981.
ويذكر المتحدث، أن «الدورو» كان يصدر وفق خطط اقتصادية ثلاثية ورباعية وضعتها الدولة، ما يعكس العلاقة الوثيقة بين السياسة النقدية والخطط التنموية آنذاك.
كما أوضح، أن مرحلة ما بعد سنة 1992 شهدت تطورا في تصميم النقود، حيث بدأت تبرز رسومات لحيوانات ومعالم طبيعية على القطع النقدية، على غرار ما حدث في سنة 1964، حينما تم إصدار أول ورقة نقدية في العالم تحتوي على رسومات لحيوانات، مثل النسر، والغزال، واللقلق، والجاموس، والجمل، في سابقة فنية ورمزية مهمة.
ولم يغفل صغيري، عن الإشارة إلى الفترة التي سبقت الاستقلال، حيث كانت الأوراق النقدية تطبع بأحجام كبيرة، وتتميز بتفاصيل دقيقة تعكس السياق السياسي والثقافي لذلك الزمن، ويضيف في سياق منفصل أنه تنقل كثيرا داخل وخارج الوطن من أجل اقتناء هذه القطع النادرة، ما يدل على شغفه العميق وحرصه على الحفاظ على هذا التراث.
ويتذكر محدثنا، قطعة نقدية فريدة من نوعها طبعت سنة 1914، تعرف باسم «الصوردي»، وكانت ذات تصميم مميز، فقد كانت مقعرة في الوسط تربطها النساء بخيط لتعليقها في العنق أو الامساك بها في اليد.
وكانت بحسب الهاوي، تصنع من الحديد أولا، لكن مع اندلاع الحرب العالمية الأولى وندرة هذه المادة تم استبداله بالزنك.
أما أجمل عملة نقدية بالنسبة إليه، فهي قطعة من فئة 10 دينار تعود لسنة 1979، رسمت على يد فنان وقد بيعت في الولايات المتحدة الأمريكية على أنها ميدالية فنية، وبثمن باهظ، ما يدل على قيمتها الجمالية والتاريخية العالية.
الطوابع البريدية تحمل جمالا خاصا
وفيما يتعلق بالطوابع البريدية، يرى صغيري أنها تحمل جمالا خاصا لا سيما في زمن كانت فيه الرسائل الورقية وسيلة التواصل الأساسية، فكل طابع كان يصمم بعناية، ليعكس رسائل فنية وثقافية، ويعبر عن أحداث وحقب معينة من تاريخ الجزائر.
كما عبر، عن اعتزازه الكبير بما ستقوم به الدولة في قادم الأيام من إصدار نقود تحمل صور الشهداء، معتبرا ذلك تكريما مستحقا لهؤلاء الأبطال، وتثمينا لمكانتهم التاريخية والوطنية.
وثائق دقيقة ومتسلسلة
وشدد صغيري، على أن هذه الوسائط «من طوابع، وبطاقات، وأوراق نقدية «، ليست مجرد أدوات جمالية أو وظيفية، بل تعد وثائق دقيقة ومتسلسلة، تنسج خيوطا من الذاكرة الوطنية قطعة بقطعة، فكل طابع بريدي، أو بطاقة تذكارية، أو ورقة نقدية شاهد حسبه، على فصل من فصول الحكاية الجزائرية، وراصد لتحولات المجتمع والسياسة والثقافة، يمنح الأجيال الجديدة مفتاحا لفهم الماضي والهوية.
مشيرا، إلى أنها تحمل رموزا ودلالات تعبر عن روح الأمة، وتقدم بلغة الفن الرفيع، مما يجعلها أقرب إلى أدوات دبلوماسية ناعمة تسافر إلى العالم عبر البريد، وتنتقل من يد إلى يد، ومن قلب إلى قلب، لتعرف بالعراقة الجزائرية و تحقق الإبهار.
مؤكدا في ذات السياق، أن بعضها بمثابة لوحات فنية مصغرة تروي قصصا عن النضال لأجل التحرر، وبطولات المقاومة، وبدايات البناء في جزائر ما بعد الاستقلال، كما تعد ذاكرة لا تصدأ، والرسالة التي لا تحتاج إلى صوت ولا مترجم.
* هاوي جمع النقود ممدوح جغري
هكذا تعرف بنا هذه الوسائط إلى الآخر
أكد هاوي جمع النقود ممدوح جغري، أن النقود والبطاقات البريدية والطوابع، والأظرفة التذكارية، تعد أدوات ترويجية فعالة لخدمة التراث الوطني، لا سيما ما يتعلق بالآثار، والمجوهرات، والمعالم التاريخية وكذا الشخصيات البارزة في المجالات السياسية، والتاريخية، والثقافية والرياضية.
وأوضح المتحدث، أن هذه الشذرات الفنية تمثل نافذة حقيقية لقراءة التاريخ والتحقق من بعض القصص التاريخية، إذ توثق لأبرز المحطات الوطنية والقضايا الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ومجزرة الثامن ماي 1945، وكل ما يخص الكفاح المسلح، بما في ذلك اندلاع ثورة أول نوفمبر، وعيد الاستقلال، وهجومات الشمال القسنطيني، ومؤتمر الصومام، وأحداث 17 أكتوبر التي تعرف بيوم الهجرة.
وأشار المتحدث، إلى أن جميع هذه المناسبات موثقة بشكل دقيق في طوابع البريد كما في النقود، داعيا من يريد الاطلاع على التاريخ الوطني إلى العودة إلى هذه الوسائط التي لا تقل أهمية عن الكتب.
وشدد أيضا، على أن من يظن أن الطوابع والنقود مجرد أشياء مادية فقد غاب عنه أنها بمثابة كتب مصغرة أو متاحف ورقية متنقلة، تحفظ سيرة وطن بكامل تفاصيله، وتوثق ملاحمه من النشأة إلى النهوض، كما تعرف به إلى الآخر باختصار وبجمالية عالية.
ل.د