ساهم فريق من الباحثين الجزائريين وعلى رأسهم، الباحثة سنوسي أسماء، في الكشف عن تقنيات غذائية تقليدية ذكية ومتكيفة مع البيئة المحلية، تمكنت من تحقيق جودة وأمان غذائيين دون الحاجة لمواد صناعية أو كيميائية، وذلك بحسب ما أظهرته دراسة بحثية حول جبن البوهزة التقليدي الذي يعتمد أساسا على جلد الماعز.
الدراسة التي جاءت تحت عنوان «الأغشية الحيوية والبنية المجهرية لجلد المجترات الصغيرة المستخدمة في صنع منتجات الألبان التقليدية» نشرت في المجلة الدولية لتكنولوجيا الألبان «مكتبة وايلي»، لتقدم الدور الوظيفي لجلد الماعز في الجبن الجزائري التقليدي البوهزة.
وكشف البحث، كيف تساهم بنية الجلد المجهرية إلى جانب غشائه الحيوي الميكروبي في تعزيز نضج الجبن ونكهته، بحيث تبين أنه لم يكن مجرد وعاء تقليدي لتخمير الجبن، بل شكل نظاما بيئيا متكاملا، وبيئة حية غنية بأنواع متعددة من البكتيريا اللبنية النافعة مثل «لاكتيبلانتيباسيلوس»، و»لاكتوكوسوس كريموريس»، إلى جانب أنواع أخرى تساهم في تطوير النكهة والقوام المميزين للبوهيزة.
أمان غذائي في وعاء من الطبيعة
وأثبتت الدراسة بحسب الدكتورة سنوسي، الأستاذة بقسم البيولوجيا التطبيقية بكلية علوم الطبيعة والحياة جامعة العربي التبسي، أن هذه الميوكروبات تنتقل من الجلد إلى مشروب «اللبن» التقليدي أثناء التحضير، مما يثري التنوع الميكروبي الضروري لعملية إنتاج الجبن. وأضافت، أن الدراسة كشفت أيضا عن مفاجأة كبيرة من حيث الأمان الغذائي، أين رصد الباحثون الغياب التام لأي مسببات مرضية خطيرة مثل «السالمونيلا أس بي بي» أو غيرها في كل العينات التي أخضعت للاختبار.
موضحة، أن هذا الأمان يعود جزئيا للمعالجة التقليدية للجلد باستخدام الملح وحبوب العرعر، التي أثبتت الدراسات احتواءها على زيوت أساسية ذات خصائص مضادة للبكتيريا والفطريات.
وتدعم النتائج التي خلصت إليها الدراسة البحثية، دراسة سابقة شارك فيها فريق من الباحثين تحت إشراف البروفسور زيدون محمد نصر الدين، والبروفسور عيساوي زيتون وردة التابع لمعهد التغذية والتغذي والتكنولوجيات الفلاحية الغذائية «إيناطا» بقسنطينة، و القائمة على أن فكرة الممارسات التقليدية ليست مجرد طقوس تراثية، بل هي تقنيات غذائية ذكية ومتكيفة مع البيئة المحلية، تحقق جودة وأمانا غذائيين، دون الحاجة إلى مواد صناعية أو إضافات كيميائية. كما تبرز أن الحفاظ على استخدام الجلد في صناعة «البوهزة» يعني الحفاظ على تنوع ميكروبي طبيعي يسهم في الطابع الفريد لهذا المنتج.
هكذا يصنع البوهزة
ويصنع جبن البوهزة التقليدي، من حليب الماعز أو البقر أو الغنم الخام دون إضافة أي شيء، وطريقة صناعة البوهزة التقليدية تختلف عن باقي الأجبان المعروفة بـ»الأجبان الناضجة في جلود الحيوانات».
وتقول الباحثة، إن هناك عمليات تحدث في البوهزة، مثل التحمض الطبيعي، وتصريف الشرش، والنضج بشكل متزامن داخل وعاء أو كيس منفذ ومصنوع من جلد الماعز أو الخروف الصغير، ويعرف محليا باسم «الجلد».
أما بالنسبة لصناعة الجلد، فيؤكد البروفسوران عيساوي وزيتون والأستاذة سنوسي، أنه يكون أولا بإزالة الشعر عن جلد الماعز وغسله جيدا، ثم تتم معالجته باستعمال الملح وحبوب العرعر، ويقلب إلى الداخل ويربط ويشطف قبل استخدامه في صناعة الأجبان، وبعد ذلك يثبت بحيث يكون جانب الصوف في الداخل ويلامس «اللبن» طوال الليل، ثم يشطف مرة أخرى.
وتبدأ عملية إنتاج الجبن بحسب ذات الدراسة، باستخدام لبن مملح بنسبة 20 إلى 25 غ من الملح لكل لتر من المادة الخام، ويملأ الجلد عادة حتى النصف أو ثلاثة أرباع سعته، ثم تضاف إليه كميات أخرى من اللبن « 2ضرب3 لترات» على فترات 3إلى 4 أيام، وبعدها يضاف الحليب الخام الكامل «2 ضرب3 لترات» على نفس الفاصل الزمني، وذلك قبل أسبوع من الحصول على الجبن الناضج.
ولإنهاء العملية، يعلق الجلد في مكان جيد التهوية أو في الظل، وتستمر عملية النضج لمدة تتراوح بين شهرين أو ثلاثة أشهر، حيث تسمح مسام الجلد بتصريف الشرش تدريجيا، ويجرى تنظيف الجلد من الخارج يوميا. بعد مرور شهر من النضج، يصبح الجبن جاهزا للاستهلاك ويضاف إليه الفلفل الأحمر الحار لمنحه مذاقا خاصا يتماشى مع أذواق المستهلكين.
تبرز الدراسة التي تم العمل عليها لفترة من الزمن، الحاجة الملحة للاستفادة من التراث المحلي في ظل التحديات التي تواجه المنتجات التقليدية بسبب التغيرات الاجتماعية والاقتصادية.
وتأتي لتؤكد أن التراث الغذائي الجزائري ليس جذيرا بالحماية فحسب، بل يمكن أن يكون مصدر إلهام للابتكار الغذائي المعاصر، خاصة وأن الجلد التقليدي يعتبر نموذجا حيا لتكامل الإنسان والطبيعة في إنتاج غذائي آمن صحي وذو قيمة ثقافية عالية.
إيمان زياري