
في قلب قسنطينة العتيقة، أين تختلط الأزقة بروائح التاريخ وعبق الأسواق الشعبية، يعيش إبراهيم عميور، أحد أقدم الحرفيين في التقبيب أو الصفارة والتلميع أو ما يعرف بـ «تشبيب» وصناعة النحاس، وواحد من آخر حراس الحرفة في المدينة، فقد قضى خمسين سنة في الممارسة جعلت منه شاهدًا على بدايات ازدهار النشاط، ثم انحساره و اندثاره تقريبا.
قابلناه في محله أين يشتغل رفقة ابنيه في مجال لم يعد مطلوبا كثيرا، كان إبراهيم يجلس أمام قطع النحاس المنتشرة حوله، يلمسها كما يلمس الأب كتف ابنه وهو يحدثنا عن علاقته بالحرفة قائلا بتأثر عميق:» تسري هذه الحرفة في عروقي فقد مارستها منذ أن بدأت أرشد، لا أعتقد أني أستطيع أن أنام يوما دون أن أشتم رائحة النحاس فذلك سيجعلني أحس بأني لم أنجز شيئا، أو أني تخليت عن ابن من أبنائي، هذا النشاط جزء من تفاصيل يومياتي بل هو ما يمنحها القيمة ويشجعني على الاستيقاظ كل صباح».
حرفة كانت في أوجها في السبعينات والثمانينات
أخبرنا، أنه خلال التسعينات تحديدًا، لم يكن النحاس و «التشبيب» أو تلميع المعدن مجرد حرفة بسيطة، بل كان هذا النشاط والاهتمام به والإقبال عليه عنوانًا للذوق القسنطيني الرفيع.
تخصص إبراهيم في تلميع النحاس وصقله وتزيينه، في زمن كانت فيه التحف النحاسية حاضرة في كل بيت تقريبًا، من طاولات صغيرة، وأباريق، وموائد شاي، إلى أدوات الزينة والديكور التي كانت العروس لا تستغني عنها. يتذكر محدثنا تلك الأيام بنبرة فخر معبرا:» كان الطلب كبيرًا لدرجة جعلتني أفتتح محلين كاملين في حي باردو، الحي الشهير بالحرفيين». قال إنه كان يعمل من الصباح حتى المساء، وأن مطرقته لم تكن تهدأ بين يديه، أما المحل فما كان يخلو من الزبائن طوال اليوم، سواء من سكان المدينة أو من زوارها الذين كانوا يرون في النحاس جزءًا من هوية المكان وتراثه.
رجل أتقن لغة النقش و رموزها
في حديثه عن تفاصيل الحرفة، يوضح إبراهيم، أن الزخارف التي تزين مختلف القطعة النحاسية سواء قطع الزينة أو تلك المخصصة للاستعمال الدائم، ليست مجرد أشكال جميلة، بل هي رموز تحمل معاني ودلالات ترتبط بالثقافة المحلية، ولكل نقش حكاية ولكل زخرفة جذور.
وحسب الحرفي، فإن بعض هذه الزخارف والرموز مستمد من التراث الأندلسي، وبعضها من المخيال الشعبي القسنطيني، حيث تلتقي الهندسة بالفن، ويجتمع الصبر بالحس الجمالي.
يقول مبتسمًا:»حتى الزخارف التي نرسمها وننحتها تروي قصصا فلكل واحدة معنى، وليست مجرد خطوط نشكلها اعتباطا على النحاس، بل هي جزء من حكاية أو ذاكرة وغالبا ما ترتبط بالعادات والتقاليد وحتى المعتقدات أي أنها تعكس جانبا من ثقافة سائدة في المجتمع المحلي».
يضيف محدثنا واصفا تفاصيل العمل اليومي:»لطالما كان المنتج الذي نقدمه راقيا وجميلا ذلك لأنه ينز بعناية ودقة، والدقة مهارة تتطلب وقتًا، والوقت لم يكن يوما عقبة أمامنا نحن من أحببنا هذه الحرفة بصدق، بل إن الصبر جزءً من متعة العمل».
هكذا نعيد للنحاس بريقه
وبين قطع النحاس المصفوفة أمامه، يشرح محدثنا وبشكل جدي تفاصيل عملية تلميع النحاس كما لو كان ينقل لنا سرا قائلا :» أولا نجلب القطعة النحاسية ويبدأ العمل دائمًا بتنظيفها بعناية، ثم نغسلها بالماء وروح الملح للتخلّص من الجراثيم والميكروبات العالقة على سطح النحاس، وهي خطوة أساسية قبل الدخول في أي معالجة أخرى». يسترسل في الوصف « نضع القطعة النحاسية في حوض التلميع وهناك تتم العملية بطريقة كيميائية دقيقة، حيث يتفاعل المعدن مع بعض المواد الأخرى ليعود إلى بريقه الأول ويستعيد لونه الطبيعي الأصلي. بعد ذلك نقوم بتجفيف القطعة بعد إخراجها من الحوض وهي عملية تتم بشكل طبيعي دون استعجال.».
يواصل» في آخر مرحلة نستعمل النجارة لفرك النحاس، وهي مادة يستعملها الحرفيون عادة لامتصاص الرطوبة المتبقية وتنعيم السطح، حتى تصبح القطعة خالية من أي أثر للماء أو التفاعل الكيميائي. لاحقا نعيد غسل النحاس مرة ثانية بالماء وحده وتركه ليجف بعد الفرك، وتمسح القطعة مجددًا ويتم تجفيفها بنفس الطريقة للحصول على اللمعان المطلوب وعلى سطح ناعم ومتجانس تمامًا». وحسب الحرفي، فإن القطعة النحاسية تبدو بعد هذه العملية كأنها جديدة، خرجت من بين يدي الزمن لا من ورشة بسيطة على حد تعبيره.
حرفة فقدت بريقها بمرور الزمن
كما تغيّر الزمن تغيّرت الأسواق أيضًا بهذه الصيغة انتقل الحرفي للحديث عن واقع نشاطه اليوم، مشيرا إلى أنه مع دخول المنتجات المستوردة رخيصة الثمن، ومع تغيّر الذوق العام للأجيال الجديدة التي أصبحت تبحث عن السرعة والجاهزية بدل القطع اليدوية المكلفة وثقيلة الوزن، بدأ الطلب على النحاس التقليدي في الانخفاض تدريجيًا. 
يصف إبراهيم المرحلة قائلاً :»في السنوات الأخيرة تراج الطلب كثيرًا، إن لم أقل اندثرت الحرفة تمامًا.» أغلق محدثنا محلاته في باردو بعدما خفّت الحركة وقلّ الزبائن، لكنه لم يغلق قلبه أمام النحاس، وتحوّل العمل من تجارة يومية إلى نشاط منزلي بسيط يمارسه رفقة أبنائه الذين تعلموا على يديه أسرار المهنة وأدق تفاصيلها.. قال، إنه عندما فكّر في الابتعاد عن هذه الحرفة، لم يستطع فعل ذلك دون أن يترك خلفه من يحمل المشعل بعده، لذلك علّم ابنه الأكبر موضحا بكل فخر:» عندما أردت الابتعاد علمت ابني أولا وهو خليفتي الآن.» ورغم أن الابن لا يمارس الحرفة كمصدر رزق ثابت، إلا أن وجوده في الورشة الصغيرة بالبيت دليل على أن النشاط رغم ما أصابه من تراجع لم يمت تمامًا كما يقول محدثنا.
بين الحنين والاستمرار
يعمل إبراهيم اليوم بهدوء ليس بحثًا عن ربح مادي، بقدر ما هو حفاظ على ذاكرة مهنية وحرفية صنعت اسمه في المدينة وبين زملائه في المجال وفي باردو تحديدا، يقول إنه يمارس «التشبيب» كمن يمارس هوايته المفضلة. وكل قطعة نحاسية بين يديه ليست مجرد معدن، بل زمن كامل من الذكريات القيمة التي تخزن جزءا من تاريخ الحرفة في المدينة.
وقد عبر الحرفي بالقول، إن تغير معطيات السوق لا يعني أن نتخلى عن تراثنا، مضيفا بأن النحاس حتى وإن فقد بريقه في منازل العائلات القسنطينية سيظل براقا داخل قلبه، وستبقى الزخارف تحكي قصصًا عن المدينة وعن أيام ازدهار الحرفة. ويسترجع المتحدث، ذكريات الماضي يتحدث بحسرة عن مهنة كانت رمزا للصناعات التقليدية في عاصمة الشرق الجزائري، مؤكدا أننا نتحدث عن عنصر من عناصر الهوية الثقافية للمدينة، وأن رياح العصرنة لا يجب أن تقتلعنا من جذورنا كما عبر، بل يتوجب علينا حسبه، أن نجد سبلا للحفاظ على هذا الإرث وضمان استمراره.
ويقول الحرفي، إنه من القلائل الذين يأبون بل ويرفضون فكرة الاستسلام و الانسحاب لأن الزمن تغير معلقا :» أنا بخير ما دام النحاس موجودا من حولي.»
ورغم كل ما مرّت به الحرفة من تقلّبات، ما يزال إبراهيم يؤمن أن النحاس ليس مجرد مادة تُصاغ، بل ذاكرة جماعية لقسنطينة فحين يتحدث عن السوق القديم، عن أصوات الباعة وروائح المخابز، وعن ضجيج المطارق المتناغمة في الأزقة، يكتب مشهدا عن مدينة كانت نابضة بالحياة تنعكس فيها الشمس على سطح القطع النحاسية فيضيء تاريخا بشكل أكبر.
وحسب محدثنا، فإن كل قطعة اشتغل عليها يوما هي جزء من الملامح البصرية والاجتماعية للمنطقة يقول» في السابق لم تكن العروس تخرج من بيت أهلها دون صينية نحاسية مزخرفة، ولا يكاد بيت واحد يخلو من أباريق الشاي النحاسية، كان للنحاس مقام وهيبة. «.
هذه التفاصيل الصغيرة التي يكشفها إبراهيم تبين حجم التحوّل الذي مس المجتمع المحلي، ليس فقط من حيث الذوق العام بل في رموزه اليومية أيضًا، معلقا بأنه عندما يمرّ أمام محله السابق في باردو، يشعر بحنين قوي ويدرك أن كل مهنة تمرّ بدورات حياة وأن الصناعات اليدوية هي أكثر ما يتأثر بالسرعة والتكنولوجيا. ومع ذلك، لا يرى إبراهيم أن النهاية حتمية، بل يقول بثقة هادئة «إذا عاد الاهتمام بالتراث، ستعود الحرفة فالنحاس لا يموت وحتى إن تغيّرت الأجيال، يبقى هناك دائمًا من يبحث عن اللمسة الأصيلة، عن قطعة صُنعت باليد لا بالآلة، وعن تحفة فنية لا يمكن إنتاجها في المصانع لذلك». يواصل إبراهيم عمله اليوم، ولو بوتيرة أقل لكنه يفعل ذلك كمن يحافظ على جذوره و أصله في زمن السرعة و التطور، مؤمنًا أن هذه الحرفة ستسمر مهما انحسرت دائرة النشاط، فهي حسبه جزءً من تاريخ قسنطينة وهويتها العميقة. عبدالغاني بوالودنين