تعد منطقة قالمة بمثابة متحف تاريخي مفتوح، يوثق لحقب طويلة من تاريخ الجزائر، بداية من دخول الاحتلال الفرنسي إلى غاية الاستقلال، مرورا بمحطات حاسمة و مثيرة، بينها مجازر 8 ماي 1945 التي تركت آثارا لا تمحى من ذاكرة السكان المحليين، رغم مرور 80 عاما على تلك المجازر، التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي شهر ماي الأسود، بمدينة قالمة، و مواقع تاريخية كثيرة مازالت تحتفظ بشواهد حية، تؤرخ لحقبة دامية من تاريخ الجزائر، المليء بالأحداث و المآسي، التي لم تتوقف على مدى 132 عاما، من الاحتلال الذي طال الأرض و الفكر و الهوية، مرتكبا المجازر الجماعية، و التطهير العرقي و الإبادة، في حق شعب أعزل ظل رافضا للاستعمار، و لم يتوقف عن الثورة تلو الثورة، و الانتفاضة تلو الأخرى، متطلعا إلى الحرية و السيادة على أرضه و ثرواته.
و مازالت مجازر 8 ماي 1945 الأكثر تأثيرا و حضورا، لدى سكان منطقة قالمة، الذين أعلنوا رفضهم المطلق للاستعمار، و ممارساته المنتهكة لحقوق الإنسان، منذ أن وطأت أقدامه الأرض الزكية، لم يتوقف النضال، و لم تتوقف حركات المقاومة، و الانتفاض، حتى اندلعت حرب التحرير مؤذنة بنهاية الاحتلال.
و في كل ذكرى من ذكريات ماي الأسود، يسترجع سكان قالمة تلك المآسي الدامية، التي أودت بحياة الآلاف من المدنيين العزل، بالمدن و القرى و الأودية و الشعاب، التي تحولت إلى ميادين للإعدامات الجماعية، التي وصلت إلى حد الحرق بأفران الجير الرهيبة، التي أذابت اللحم و العظم، و أبادت خيرة أبناء قالمة، الذين خرجوا ينشدون الحرية، بشارع عنونة و باب السوق و الكرمات، و الشارع الكبير.
و على مدى 80 عاما، بقيت شواهد المجزرة ماثلة للعيان، تذكر الأجيال المتعاقبة، بما حدث في شهر ماي و بعده، من سنة 1945، و ماذا فعل المعمرون و مليشيا الموت، بمناضلي الحركة الوطنية، و أبناء الكشافة الإسلامية، و المثقفين و الفلاحين، الذين قادوا انتفاضة الريف، التي دعمت المدن المحاصرة، و شنت الهجمات على مزارع المعمرين، مؤذنة بميلاد مرحلة جديدة من النضال و الكفاح المسلح، لتحرير الأرض و الإنسان.
و يرى الباحثون في شؤون الحركة الوطنية، و تاريخ المنطقة، بأن الشواهد الحية التي تحتفظ بها مدن قالمة، بلخير، بومهرة أحمد، و هليوبوليس، وادي الزناتي، الدهور، و وادي الشحم، تعد بمثابة ذاكرة تاريخية حية، لا يمكن أن تنسى، و ستظل هذه الشواهد تذكر الأجيال المتعاقبة بنضال الأجداد، و تضحيتهم في سبيل الحرية و الأنعتاق، و تذكر فرنسا الاستعمارية بأن الشعب الجزائري لن ينس، و سيظل يتذكر ما وقع من جرائم، في كل موقع من مواقع الإعدامات السرية، و العلنية، رميا بالرصاص، و حرقا بأفران الجير.
ساحة الكرمات...
معلم خالد و منطلق لمسيرة التحرر
يعد معلم الكرمات الواقع بحي باب السوق بمدينة قالمة من أبرز المعالم و الشواهد الحية على انتفاضة 8 ماي 1945 و ما أعقبها من مجازر طال صداها العالم كله.
قصة هذا المعلم الخالد، تقول أنه مساء الثامن ماي من سنة 1945 تجمع المئات من سكان مدينة قالمة و المدن و القرى المجاورة، بالمكان المسمى الكرمات، قرب حي باب السوق العريق، استعدادا لتنظيم مسيرة سلمية، موازية لمسيرة الفرنسيين، احتفالا بنهاية الحرب العالمية الثانية.
و قبل المسيرة بأيام قليلة، ظل رئيس دائرة قالمة، أندري آشياري، يضغط بقوة على مناضلي الحركة الوطنية، حتى ينظموا إلى مسيرة الفرنسيين، و تحت علم فرنسا، لكن محاولاته باءت بالفشل، نظرا لإصرار سكان قالمة على تنظيم مسيرة مستقلة، و تحت العلم الجزائري، مما اعتبره حكام المدينة عصيانا للأوامر، و تمردا على القوانين الفرنسية، و سلطة المدينة، و رغم ذلك رفع المتظاهرون التحدي، و انطلقوا من ساحة الكرمات، مساء ذلك اليوم التاريخي المشهود، عبر شارع عنونة التاريخي، باتجاه وسط المدينة، رافعين الأعلام الجزائرية التي خاطتها أيادي المناضلين سرا، قبل عدة أيام، استعدادا لهذا الحدث الذي غير مجرى التاريخ.
و قد بدأ الاستفزاز و العنف ضد المتظاهرين، من منازل الفرنسيين على طول شارع عنونة، و وسط المدينة، و تطورت الأحداث بسرعة، عندما وصلت المسيرة إلى ساحة، تسمى اليوم ساحة 8 ماي 1945، و انطلقت رصاصة من مسدس السفاح آشياري، أصابت حامد بومعزة حامل العلم الجزائري، و أردته قتيلا، فكان أول شهداء ماي الأسود بقالمة، و اختلط الحابل بالنابل، و تفرقت الحشود في كل الاتجاهات، بينما كان الرصاص يلاحق الفارين العزل.
صدرت الأوامر بسرعة، و أغلقت المحال التجارية و فرض حضر للتجوال، بالمدينة بداية من الساعة التاسعة و النصف مساء، من ذلك اليوم الحزين، و بدأت الملاحقات و الاعتقالات، معلنة عن انطلاق مخطط القتل، و الإبادة، الذي قادته مليشيا المعمرين، الذين أعلنوا الحرب على كل ما هو جزائري مسلم بمدينة قالمة، و في كل قرية ثائرة بمناطق بلخير، بومهرة أحمد، هليوبوليس، عين العربي، وادي الزناتي الفجوج و الدهوارة و وادي الشحم، و غيرها من المواقع الأخرى، التي انتفضت و قررت إعلان الجهاد، لتحرير الأرض المغتصبة.
و تظم الساحة التاريخية اليوم، نصبا تذكاريا يخلد تضحيات سكان قالمة، و من هذا الموقع تنطلق مسيرة صامته، مساء كل ذكرى من ذكريات ماي من كل عام، و يعد المكان من أبرز المعالم التاريخية بمدينة قالمة، يزوره السياح و المؤرخون على مدار العام.
الحمامات الرومانية ... موقع آخر لإعدام النخب و قادة الحركة الوطنية
تعد الحمامات الرومانية، المصنفة اليوم تراثا وطنيا وسط مدينة قالمة، أحد مواقع الإعدامات السرية التي طالت المثقفين، و مرموز الحركة الوطنية، و الكشفية بقالمة، عقب انتفاضة 8 ماي 1945. بعد النهاية المأساوية للمسيرة، أعلنت الحرب على كل سكان المدينة، و كان مناضلو الحركة الوطنية و المثقفين و ملاك الأراضي، على صدارة قائمة، أعدها حكام قالمة، للانتقام و إجهاض الانتفاضة و صد الهجمات التي طالت المعمرين. و حسب المؤرخين، و شهود من المدينة، فقد تشكلت مليشيا المعمرين المسلحة و قامت باختطاف النخب المثقفة من الرجال و النساء، و الزج بهم في المعتقلات السرية، أياما متتالية دون أكل و شرب، ثم ينقلون إلى ميادين الإعدامات الجماعية، بينها ميدان الحمامات الرومانية داخل الثكنة القديمة، وسط مدينة قالمة، أين قتل خيرة أبناء المدينة، بأمر من رئيس الدائرة أندري آشياري، حسب ما كشف عنه تقرير سري أعده رئيس الشرطة المتنقلة «بيوسون» في 25 ماي 1945.
و ذكر التقرير بعض أسماء الجزائريين الذين أعدموا هناك، بينهم علي عبدة، إسماعيل عبدة، مبروك ورتسي، عبد الكريم بن صويلح، عمار ورتسي، أومرزوق محمد، دواورية حميد، و إسماعيل بن عزوق و مسعود شرفي.
و مازال هذا الموقع إلى اليوم، مزارا تاريخيا مقدسا، يقف عنده سكان المدينة كل ذكرى، من ذكريات 8 ماي من كل عام، للترحم على أرواح الضحايا، و تجديد العهد مع الذاكرة الشعبية التي تأبى النسيان.
أفران الجير الرهيبة...هنا أحرقت جثث الجزائريين العزل لطمس معالم الجريمة
لم تكن الحمامات الرومانية، داخل الثكنة القديمة وحدها، ميدانا للإعدامات السرية، فهناك على بعد 5 كلم، موقع آخر لإعدام من نوع آخر، إعدام بالحرق و تذويب الأجساد البشرية، حتى تتحول إلى رماد، موقع أفران الجير، التي بناه المعمرون بمنطقة حمام برادع، قرب مدينة هليوبوليس، أين أحرقت جثث الضحايا، في محاولة لطمس معالم الجريمة، بعد أن انتشر خبرها على نطاق واسع، و تخطى حدود الوطن المحتل.
و قد تنقلت بعثة لتقصي الحقائق، إلى قالمة و سارع المجرمون القتلة، إلى جمع الجثث من مواقع الإعدامات السرية، و من المقابر الجماعية، و نقلها إلى أفران الجير، و كوشة الياجور، لحرقها و التخلص منها، في واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية في القرن العشرين.
و مازالت شواهد الجريمة إلى اليوم بأفران الجير، المبنية بالحجارة الكلسية المقاومة للحرارة، و عندما تقف أمامها، تدرك مدى الحقد الدفين الذي كان يكنه الاستعمار الفرنسي للجزائريين، كما يقول سكان مدينة هليوبوليس، التي كانت مسرحا للإعدامات، و الحرق على نطاق واسع، أياما طويلة بعد انتفاضة 8 ماي 1945.
و يقول المؤرخون الذين حضروا الملتقيات الدولية، التي تنظمها جامعة 8 ماي 45 بقالمة، حول مجازر ماي 1945، بأن ما حدث بأفران الجير بمدينة هليوبوليس هو جريمة ضد الإنسانية، في منظور القانون الدولي، و أن هذه الجريمة غير قابلة للتقادم، و النسيان، مطالبين الحكومات الفرنسية المتعاقبة، بالاعتراف بهذا الجرم، و تقديم اعتذار صريح للشعب الجزائري، و سكان قالمة، الذين مازالوا يزورون الأفران الرهيبة، و يسترجعون ذكرى المأساة، و يدعون بالرحمة للضحايا الذين أحرقوا هنا، في محرقة أخرى لا تقل بشاعة، و فظاعة، من المحرقة النازية.
كاف البومبة بهليوبوليس...إعدامات جماعية رميا بالرصاص
يعد كاف البومبة، الواقع قرب مدينة هليوبوليس، على الضفة الشمالية لنهر سيبوس، شمالي قالمة، من بين المواقع التي اختارتها مليشيا آشياري، لتنفيذ الإعدامات الجماعية السرية، في حق المعتقلين، عقب مظاهرات 8 ماي 45 بمدينة قالمة، و مدن و قرى أخرى مجاورة.
يقول المؤرخون و شهود حضروا تلك المأساة، كل ليلة تأتي الشاحنات المحملة بالجزائريين إلى هذا المكان، و تنفذ فيهم عمليات الإعدام السري الجماعي، ثم تنقل جثثهم إلى أفران الجير، و مقابر جمعية سرية لا أحد يعرف موقعها حتى الآن.
و قد اختار المعمرون كاف البومبة لقتل المعتقلين لعدة أسباب، بينها الموقع المناسب للإعدام السري رميا بالرصاص، و قرب المكان من مدينة قالمة و مدينة هليوبوليس، معقل الحركة الوطنية، و سهولة الوصول إليه عبر الطريق المعبد، و قدرة المعمرين على تأمينه، و منع الجزائريين من الوصول إليه ليلا و نهارا.
لا أحد يعرف كم عدد الذين أعدموا هناك، كل ما يعرفه سكان قالمة القدامى، أن عددا كبيرا من المعتقلين قد قتل بهذا الموقع، الذي بقي هو الآخر شاهدا على جرم الاستعمار، و استهتاره بالقيم و المبادئ الإنسانية.
و تحول المعلم التاريخي كاف البومبة إلى مزار تاريخي للباحثين و المؤرخين، و سكان المنطقة الذين يزورونه كل ذكرى من ذكريات ماي الأليمة، للترحم على ضحايا الإعدامات السرية، التي طالت المناضلين المثقفين و الرياضيين، و قادة الحركة الوطنية و رواد الكشافة الإسلامية، القلب النابض للجزائريين زمن الاحتلال.
موقع الأرض الكحلة...موقع آخر للحرق السري للأحياء على ضفاف سيبوس
يعد موقع الأرض الكحلة، أو ما يعرف بكوشة الياجور، من بين المواقع السرية التي اختارها قادة الميليشيا، للتخلص من مئات الجثث المنتشرة في كل مكان.
على ضفة نهر سيبوس، بجانب الطريق الوطني 20، وسط حقول زراعية، كانت إلى وقت قريب، بساتين لأجود أنواع الفواكه، تسمى جنان قوسي، يوجد مبنى قديم متداعي، تحول خلال انتفاضة 8 ماي 1945 إلى موقع لحرق جثث الضحايا، بمنطقة الأرض الكحلة غربي مدينة قالمة، من حيث قدمت الجموع الثائرة، من القرى و المداشر لدعم الانتفاضة الشعبية، و نصرة سكان مدينة قالمة المحاصرة.
و تقول المصادر التاريخية بأن عدد الجثث التي أحرقت في «كوشة الياجور» ربما يفوق عدد ما أحرق بأفران الجير.
و حسب إبراهيم عفيفي، أحد المهتمين بتاريخ المنطقة و مجازر 8 ماي 1945، على وجه الخصوص، فإن الضحايا الذين احرقوا بكوشة الياجور في جنان قوسي، كانوا من الأحياء، على خلاف ما حدث بأفران الجير، أين تم حرق الجثث و بقايا الجثث من عظام و ملابس.
و يعرف الموقع التاريخي تدهورا مستمرا، تحت تأثير عوامل الطبيعة و الزمن، و الأنشطة الزراعية، و تسعى جمعية 8 ماي 1945 إلى ترميم الموقع التاريخي، و حمايته من التدهور، و الاعتداء، حتى يبقى شاهدا على ما جرى، في تلك الحقبة الزمنية بالأرض الكحلة، موطن البطولة و التضحية.
مدرسة الزراعة و المستشفى ... قتل العلم و المستقبل
بالمستشفى العسكري المدني زمن الاحتلال، و مستشفى بان زهر وسط مدينة قالمة اليوم، نصب تذكاري يخلد ضحايا مجازر 8 ماي 1945 بالمدينة، ربما يكونون من موظفي المستشفى من إداريين و ممرضين، ينتمون للحركة الوطنية و الكشفية، و مناهضين للاحتلال، و سلطة المعمرين، و الإدارة العسكرية بالمدينة، كانت انتفاضة 8 ماي 1945 فرصة للتخلص منهم، فكان مصيرهم الإعدام بلا محاكمة، هنا في هذا المكان، كما يقول فوزي احساينية، الباحث في الشؤون التاريخية للمنطقة، متحدثا للنص، ستة رجال كانوا هنا يعالجون المرضى، و يقدمون خدمات إنسانية للجميع، صاروا في غضون أيام قليلة، في عداد الضحايا و لا أحد يعرف إلى اليوم، أين دفنوا و لا أين احرقوا.
و بمدرسة الزراعة بقالمة، نصب تذكاري آخر، يخلد ضحايا المجازر، من تلاميذ المدرسة الذين التحقوا بالحركة الوطنية و الكشفية، و صاروا على قدر كبير من الوعي السياسي، و الفكر المناهض للاستعمار، فكان مصيرهم الإعدام، لكنهم مازالوا أحياء يتذكرهم سكان المدينة و طلاب المدرسة، التي مازالت تمد قطاع الزراعة الوطنية، بالكفاءات البشرية إلى اليوم.
عند مدخل المدرسة، لافتة من الرخام الأبيض، كتب عليها بالأسود « عرفانا منها لما قدمه التلاميذ الذين درسوا في المدرسة الفلاحية يومئذ، و سقطوا ضحايا الغدر الاستعماري، الغاشم، لا لشيء، إلا أنهم كانوا مناضلين فاعلين، في صفوف الحركة الوطنية، من أجيال الحرية و الاستقلال، و قد تم إعدامهم، كما أعدم الآلاف من المناضلين العزل، في مجازر 8 ماي 1945».
و تقول إدارة المدرسة، التي صارت اليوم معهدا وطنيا، بأن هؤلاء الضحايا سيبقون في الذاكرة و هذا النصب أقيم هنا كي لا ننسى.
جسر السكة و محطة القطار... نهر من الدماء
اشتد القتل، و توسعت حملة الاعتقالات، و المداهمات، و امتدت إلى جسر السكة الحديدية العابر لوادي السخون، و محطة القطار، الواقعة اليوم بالضاحية الشمالية لمدينة قالمة، أين انتشرت مليشيا المعمرين، لمحاصرة المسافرين القادمين من مختلف مناطق الوطن المحتل، و منعهم من الالتحاق بالانتفاضة، و التواصل مع قادة الحركة الوطنية بالمدينة، و نقل أخبار المجزرة.
و في هذين الموقعين انتهكت حقوق الإنسان، و اختلطت دماء الجزائريين، حين مارس المعمرون أقصى أساليب القسوة و القتل، دون تمييز بين مشارك في الانتفاضة، و مسافر قادم من مكان بعيد.
و حسب المصادر التاريخية، و الشهود الذين عايشوا المأساة، فإن الكثير من المسافرين المعتقلين اعدموا بالجسر، الواقع اليوم عند نهاية شارع التطوع بحي دوار القروي، و لم يبق للجسر اليوم أثر، لكن لوحة تذكارية ماتزال هناك، تؤرخ للجريمة و تذكر المارين من هنا، بما حدث بقالمة و قراها و مداشرها، ذات يوم من شهر ماي عام 1945.
المحجرة القديمة ... إعدامات بالرصاص و حرق بالبنزين
يتحدث محمد لخضر خلاصي، الشاهد على المجزرة، في شهادة للنصر، قبل رحيله منذ 6 سنوات، بأن المحجرة القديمة الواقعة اليوم قرب مقبرة الشهداء، بالضاحية الغربية لمدينة قالمة كانت مسرحا للإعدامات الليلية، حيث تشاهد الشاحنات كل ليلة، و هي تنقل المعتقلين إلى هناك لقتلهم و حرقهم بالبنزين دون محاكمة، في أبشع صور الانتقام ضد مثقفي المدينة، و ملاك الأراضي الزراعية، الذين أبيدوا عن آخرهم حتى تسلب ممتلكاتهم دون اعتراض و محاسبة.
و حسب المتحدث فإن المحجرة تعد ثاني أقرب موقع إعدام بمدينة قالمة، بعد الثكنة القديمة، و كان من السهل إخراج المعتقلين ليلا، من نادي الكشافة و مراكز الجندرمة و البوليس و «كوري باركو» و نقلهم في شاحنات إلى ميدان الإعدام، للتخلص منهم، في واحدة من أبشع المجازر ضد الإنسانية، التي لا يمكن نسيانها و لا يمكن أن تسقط بالتقادم.
و مازال سكان مدينة قالمة إلى اليوم، يتحدثون عن «الكاريار» كما يسمونها، و يعتبرونها معلما تاريخيا، يجب حمايته و صيانته، حتى يبقى شاهدا على الجريمة، و ذكرى للأجيال القادمة، حتى لا تنسى.
جسر بومهرة أحمد.. إعدامات و إغراق في مياه سيبوس
يعد جسر سيبوس قرب بلدية بومهرة أحمد شرقي قالمة، واحد من بين مواقع الإعدامات الجماعية التي نفذتها مليشيا السفاح آشياري، رئيس دائرة قالمة آنذاك، بعد مظاهرات 8 ماي 45 المطالبة بالحرية.
مازال هذا الجسر إلى اليوم شاهدا على الجريمة، بجانبه نصب تذكاري، يخلد ضحايا الإعدام رميا بالرصاص، و إغراقا وسط مياه نهر سيبوس الكبير.
يقول توراش محمد المدعو حميدة في شهادة نادرة أدلى بها للنصر قبل 9 أعوام «هنا أعدموا 15 جزائريا رميا بالرصاص، و تمكن واحد من الهرب، بعد أن تظاهر بالسقوط عقب إطلاق نار كثيف، من بنادق المعمرين الذين انتقموا لمقتل المعمر المالطي أنطوان قاوشي، هرب الرجل بعد انسحاب المليشيا، المسلحة كان محاطا بالجثث، و الدماء المتناثرة فوق الجسر و تحته، علقوا بعض الجثث في الجسر لزرع الرعب و الخوف وسط السكان، كان المنظر رهيبا، رأيت الجثث و عرفت بعض الضحايا، بينهم عبد الله ماضي المدعو الطبيب، السبتي لكحل، لخضر بلمي و دراجي، كانت أجسادهم ممزقة بالرصاص، و عرفت أن الرجل الذي نجا من المجزرة هو دراجي بوفلفل، كان الحزن يخيم على منطقة سيبوس، لا شيء غير القتل و الإغراق و الحرق، و رصاص القنص يصطاد الرجال في الحقول، و المزارع و الأودية، و الشعاب، تحولت قالمة إلى ميدان للإعدام بعد 8 ماي 1945».
و ينظر سكان قالمة إلى المعالم التاريخية المخلدة لضحايا مجازر 8 ماي 1945 على أنها رمز حي للذاكرة الوطنية، و شاهد على بشاعة المجزرة، معتبرين بأن ثنائية الجغرافيا و الزمان، ستظل تذكر الأجيال القادمة بالمأساة الإنسانية، التي تعرض لها الأجداد القدامى، عندما قرروا الخروج على طاعة الحاكم الفرنسي، و بداية مسيرة التحرر، فكانت ضريبة الدم ثقيلة و مؤلمة، لكنها مهدت الطريق إلى الحرية و استعادة الأرض بعد سنوات قليلة من الانتفاضة التاريخية التي بلغ صداها أنحاء العالم.
و قد لعب الفنانون التشكيليون بقالمة، دورا كبيرا إلى جانب المهندسين، لبناء النصب التذكارية المخلدة لضحايا المجازر، و جعلها أكثر رمزية حسب الموقع و طبيعة الجرم المقترف، و مازال رواد الفن التشكيلي بقالمة، ينجزون المزيد من اللوحات الفنية التاريخية، التي تحاكي مأساة الأجداد، و بطولاتهم منذ مجازر ماي الأسود و إلى غاية استقلال البلاد. تقول الفنانة التشكيلية مسعودة عفيفي، متحدثة للنصر في وقت سابق، بأن الشواهد الحية من مواقع المجزرة، و النصب التذكارية المخلدة لها، تعد وسيلة فعالة للتواصل بين الأجيال و المحافظة على الذاكرة، مؤكدة بأن للفنانين التشكيليين بقالمة دورا كبيرا في الإخراج الهندسي و الفني للكثير من معالم الذاكرة الوطنية، سواء تلك المتعلقة بمجازر 8 ماي 1945 أو بحركة المقاومة و حرب التحرير الخالدة.
و حسب المتحدثة، فإن الشواهد التاريخية بمدينة قالمة، تعد أيضا مرجعا للباحثين، و الطلبة و المثقفين، و مصدر استقطاب للسياح من داخل الوطن و من الخارج، و خلصت إلى القول بأن النصب التذكارية لمجازر 8 ماي 1945 و حرب التحرير، هي لوحة فنية رمزية و هي أيضا كالقصيدة و القصة، لها قراءات متعددة، تلتقي في النهاية عند تاريخ الأمة المليء بالمآسي و التضحيات و الانتصارات.
و قد أصبحت قالمة متحفا تاريخيا، مفتوحا يخلد ضحايا المجزرة، و معارك و أبطال حرب التحرير، و يدعم الذاكرة الوطنية حتى لا تتعرض للنسيان.
فريد.غ