أكد أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة سطيف 2، البروفيسور سفيان لوصيف، أن هجومات 20 أوت 1955، اتخذت بعدا رمزيا و عسكريا و سياسيا في آن واحد و شكلت نقطة تحول مفصلية نقلت الثورة الجزائرية إلى مرحلة جديدة أكثر نضجا ووضوحا في أهدافها و وسائلها، لافتا إلى أن هذه الهجومات كانت انتفاضة شعبية واسعة، شارك فيها آلاف الفلاحين و العمال و الطلبة و النساء، ما أعطى للثورة بعدها الجماهيري الحقيقي، حيث أصبح الشعب بأسره شريكا في معركة التحرير وأوضح أن الهجومات لم تكن عملا معزولا، بل جزءا من رؤية عسكرية أوسع هدفت إلى حماية قلب الثورة و إعطائها مجالا أرحب لمواصلة القتال.
النصر: شكلت هجومات 20 أوت 1955 ، منعطفا تاريخيا حاسما في كفاح الشعب الجزائري، ماهي الأهداف التي خطط لها قادة الثورة، من خلال هذه الهجمات الواسعة النطاق؟
سفيان لوصيف: بعد عشرة أشهر من اندلاع الثورة التحريرية في الفاتح نوفمبر 1954، وجدت الثورة نفسها أمام تحديات كبرى، فقد بدا وكأن العمليات المسلحة لم تحقق بعد الانتشار المطلوب و ظلت محصورة في نطاقات جغرافية محدودة ( الأوراس و جرجرة )، في حين أن المستعمر الفرنسي استغل هذا الوضع ليكثف دعايته على الصعيدين الداخلي و الخارجي مقدما الثورة في صورة حركة معزولة من قطاع طرق لا سند شعبي لها.
غير أن هذا الواقع لم يثن قادة الثورة عن البحث عن آليات جديدة لتوسيع رقعة الكفاح المسلح و تحويله من عمليات متفرقة إلى هجوم واسع النطاق يثبت للعالم أن الثورة ليست حدثا عابرا و إنما مشروع تحرري شامل.
ومن بين الأهداف المركزية لهجومات 20 أوت 1955 ما أكده عدد من المجاهدين في شهاداتهم، وهو فك الحصار المضروب على منطقة الأوراس التي كانت مهد الثورة و أول مناطقها المشتعلة، فقد شددت المصادر على أن الاستعمار الفرنسي بعد نوفمبر 1954، ركز جهوده العسكرية على خنق الأوراس و عزلها عن باقي التراب الوطني من خلال تشديد المراقبة و تكثيف العمليات العسكرية.
و في شهادتهم أوضح عدد من المجاهدين، أن التفكير في توسيع نطاق العمليات ليشمل الشمال القسنطيني لم يكن فقط لتدويل القضية أو لإشراك الجماهير، بل كان أيضا مناورة إستراتيجية لتخفيف الضغط الرهيب الذي كان يعيشه مجاهدو الأوراس، كما ذكر عمار بن عودة أن زيغود يوسف كان واعيا بضرورة تحويل أنظار الجيش الفرنسي إلى مناطق جديدة و إجباره على تشتيت قواته، و هو ما تحقق بالفعل بعد الهجومات، حيث اضطرت فرنسا إلى إعادة انتشار وحداتها و توزيعها على عدة جبهات، مما أتاح للأوراس استعادة أنفاسها و تجاوز محنتها، و هكذا لم يكن الهجوم عملا معزولا، بل جزءا من رؤية عسكرية أوسع هدفت إلى حماية قلب الثورة و إعطائها مجالا أرحب لمواصلة القتال.
الشهيد زيغود يوسف صاحب رؤية ثاقبة
وفي هذا السياق الاستراتيجي، برز الشهيد زيغود يوسف قائد المنطقة الثانية الشمال القسنطيني، باعتباره صاحب رؤية ثاقبة أدركت أن الثورة بحاجة إلى صدمة قوية تخرجها من عزلتها، فخطط و نفذ هجومات 20 أوت 1955 التي اتخذت بعدا رمزيا و عسكريا و سياسيا في آن واحد، إذ لم تكن مجرد هجمات مسلحة ضد الثكنات و المراكز العسكرية الفرنسية، بل كانت أيضا انتفاضة شعبية واسعة شارك فيها آلاف الفلاحين و العمال و الطلبة و النساء، ما أعطى للثورة بعدها الجماهيري الحقيقي و أكد أن الشعب بأسره صار شريكا في معركة التحرير.
لقد كان الهدف الأسمى من هذه العمليات ليس فقط تحقيق مكاسب عسكرية ظرفية، بل تحطيم جدار العزلة السياسية و الإعلامية، و دفع الرأي العام الدولي إلى الالتفات للقضية الجزائرية، وهو ما تحقق بالفعل حين وجدت فرنسا نفسها مضطرة، بعد الهزات العنيفة لهجومات الشمال القسنطيني و ما تبعها من مجازر انتقامية، لمواجهة أسئلة محرجة في المحافل الدولية حول شرعية وجودها في الجزائر و ممارساتها القمعية ضد شعب يطالب بحقه في تقرير المصير.
النصر: العمليات والخطة التي رسمها قادة الثورة بشأن العمليات ، أبانت عن نضج في التفكير العسكري للقادة، سيما مع اعتماد أساليب جديدة، ماذا تقولون بخصوص مسار وتحركات وحدات جيش التحرير الوطني بقيادة الشهيد زيغود يوسف، خلالها و الانخراط الشعبي في مسار التحرير؟
العمليـات تجاوزت طابعها العسكري لتصبح حدثا جماهيريا
سفيان لوصيف: في صبيحة يوم 20 أوت 1955، اهتزت منطقة الشمال القسنطيني على وقع عمليات منسقة غير مسبوقة في تاريخ ثورة التحرير، حيث تحركت وحدات جيش التحرير الوطني بقيادة زيغود يوسف في وقت واحد عبر عدة مناطق إستراتيجية امتدت من قسنطينة و سكيكدة إلى قالمة و الميلية، في مشهد أبان عن قدرة التنظيم الثوري على الانتقال من العمل المحدود إلى العمل الواسع و المترابط.
فقد استهدفت هذه العمليات مواقع عسكرية استعمارية محصنة، مثل الثكنات و مراكز الدرك التي كانت تمثل العصب الأساسي للسيطرة الفرنسية على الريف، كما وجهت الضربات إلى الإدارات الاستعمارية و البلديات باعتبارها رموزا للهيمنة السياسية و الإدارية التي عانى منها الجزائريون طويلا، و هو ما أعطى للعمليات بعدا رمزيا و سياسيا يفوق مجرد بعدها العسكري.
و لم تقتصر الخطة على الاشتباك المباشر، بل شملت قطع خطوط السكة الحديدية و الهاتف من أجل عزل القوات الفرنسية و إرباك قنوات اتصالها، و هو تكتيك جديد آنذاك يعكس نضجا في التفكير العسكري لدى قادة الثورة، و الأهم من ذلك أن هذه الهجومات لم تكن فعلا نخبويا يقتصر على المجاهدين المسلحين، بل تحولت إلى انتفاضة شعبية عامة شارك فيها سكان القرى و المدن على نطاق واسع، حيث خرج الرجال و النساء و الشباب ليشكلوا سندا بشريا قويا للمجاهدين، مما جعل العمليات تتجاوز طابعها العسكري لتصبح حدثا جماهيريا يعبر عن انخراط الشعب في مسار التحرير.
السلطات الفرنسية التي لم تتوقع أن تصل الثورة إلى هذا المستوى من الجرأة و التنظيم
و من بين كل هذه العمليات، برزت عملية سكيكدة باعتبارها الأبرز و الأكثر دويا، إذ تمكنت قوات جيش التحرير من ضرب رموز الإدارة الاستعمارية في قلب المدينة، ما أحدث صدمة قوية لدى السلطات الفرنسية التي لم تتوقع أن تصل الثورة إلى هذا المستوى من الجرأة و التنظيم، كما تركت العملية أثرا واسع الصدى في الداخل و الخارج، و أكدت للعالم أن ثورة الجزائر قد دخلت مرحلة جديدة لا عودة فيها إلى الوراء.
النصر: كيف كان رد الفعل الفرنسي على هذه الهجومات؟
سفيان لوصيف: كان رد الفعل الفرنسي على هجومات الشمال القسنطيني في غاية القسوة و الوحشية، إذ لم تتردد السلطات الاستعمارية في اللجوء إلى سياسة الانتقام الجماعي التي استهدفت المدنيين العزل أكثر مما استهدفت المجاهدين أنفسهم، فقد شنت القوات الفرنسية حملة دموية واسعة النطاق في مدينة سكيكدة و المناطق المجاورة لها، حيث ارتكبت مجازر رهيبة راح ضحيتها آلاف الشهداء من الرجال و النساء و الأطفال، كثير منهم أعدموا ميدانيا دون محاكمة أو تمت تصفيتهم داخل قراهم أمام أعين ذويهم.
السلـطات الاستعمارية اعتمدت أسلوب العقاب الجـماعي
ولم تكتف فرنسا بعمليات الإعدام الجماعية، بل لجأت إلى قصف قرى بأكملها باستخدام الطائرات و المدافع، فدمرت البيوت على ساكنيها و مسحت تجمعات سكنية من الوجود، في مشهد يجسد إرادة ترويع الشعب الجزائري و إجباره على الاستسلام.
كما اعتمدت السلطات الاستعمارية أسلوب العقاب الجماعي، ففرضت حصارا خانقا على المناطق التي شهدت الهجومات، و أقدمت على اعتقال الآلاف من الأبرياء و نقلهم إلى معتقلات جماعية، حيث تعرضوا لشتى أنواع التعذيب، بينما طردت عائلات بكاملها من أراضيها و حرقت محاصيلها لإجبارها على الخضوع.
و قد كان الهدف من هذه السياسة الدموية إرسال رسالة واضحة مفادها أن أي محاولة للثورة ستقابل بعقاب شامل لا يميز بين المجاهد و المواطن البريء، غير أن هذه الوحشية لم تضعف عزيمة الشعب الجزائري، بل زادت من حدة السخط ضد الاستعمار و دفعت شرائح أوسع من المجتمع إلى إدراك أن النضال المسلح أصبح السبيل الوحيد للتحرر من بطش القوة الاستعمارية.
النصر: ماهي النتائج التي تحققت إثر هجومات الشمال القسنطيني، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي وأيضا على المستوى التنظيمي؟
نتائج الهجومات كانت عميقة الأثر على مسار الثورة
سفيان لوصيف: لقد كانت نتائج هجومات الشمال القسنطيني عميقة الأثر على مسار ثورة التحرير الجزائرية، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي أو حتى في البنية التنظيمية للثورة، فعلى المستوى الداخلي، ساهمت هذه العمليات في إعادة الروح إلى الثورة بعد فترة من الركود، إذ أكدت أن الكفاح المسلح ليس مجرد فعل محدود في نطاقات جبلية أو ريفية، بل هو مشروع جماهيري قادر على الوصول إلى المدن الكبرى و استقطاب مختلف فئات الشعب، و هو ما كسر العزلة التي حاول الاستعمار الفرنسي فرضها على الثورة و صورها من خلالها كحركة معزولة لا تحظى بسند شعبي.
لقد برهنت الانتفاضة على أن الشعب الجزائري بأكمله في المدن و القرى بات جزءا من المعركة، و أن الثورة انتقلت من مجرد عمليات فدائية إلى حركة تحرير وطنية شاملة، أما على المستوى الخارجي فقد أحدثت هذه الهجومات صدى كبيرا في الرأي العام العالمي، إذ تناقلت الصحافة الدولية أخبارها على نطاق واسع، و اضطرت فرنسا إلى مواجهة ضغوط دبلوماسية متزايدة، خصوصا بعد أن طرحت القضية الجزائرية لأول مرة على جدول أعمال الأمم المتحدة في سبتمبر 1955، و هو مكسب سياسي بارز أعطى للثورة بعدا دوليا و جعلها جزءا من حركات التحرر العالمية التي كانت تتسع رقعتها في الخمسينيات.
و على المستوى التنظيمي برز اسم زيغود يوسف كقائد عسكري بارز يمتلك رؤية استراتيجية، حيث عززت هذه العمليات مكانته داخل جبهة التحرير الوطني، و مهدت الأرضية لعقد مؤتمر الصومام في 20 أوت 1956 الذي جاء ليضع اللبنات الأساسية لهياكل الثورة العسكرية و السياسية، من خلال تنظيم جيش التحرير الوطني و تحديد الأولويات و رسم معالم القيادة الجماعية، و بذلك يمكن القول إن هجومات الشمال القسنطيني لم تكن مجرد حدث عسكري عابر، بل شكلت نقطة تحول مفصلية نقلت الثورة الجزائرية إلى مرحلة جديدة أكثر نضجا و وضوحا في أهدافها ووسائلها.
أجرى الحوار : مراد -ح