السبت 5 جويلية 2025 الموافق لـ 9 محرم 1447
Accueil Top Pub

في كتابه "سطيف، المقبرة الجماعية، مجازر 8 ماي 1945" : الباحث كمال بن يعيش ينبش في الذاكرة الجماعية الجريحة للهضاب العليا


* إحياء ذاكرة شهداء حاول الاستعمار طمس أسمائهم ومقابرهم *  رغم مرور 80 سنة .. لا تزال الرواية الحقيقية مطموسة عن الفرنسيين * فرنسا لا تزال سجينة خطاب اليمين المتطرف و الإسلاموفوبيا
في كتابه «سطيف، المقبرة الجماعية، مجازر 8 ماي 1945»، يضع الباحث الاستقصائي في التاريخ، كمال بن يعيش، نفسه في قلب معركة من أجل استعادة الحقيقة وإنصاف الذاكرة الوطنية، في مواجهة واحدة من أبشع الجرائم المرتكبة خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر.

عرض: عبد الحكيم أسابع

فبعين الباحث الدقيق ووجدان الإنسان المنتمي، ينبش كمال بن يعيش الذاكرة الجماعية الجريحة للهضاب العليا، حيث ولِد وتعلّم ونشأ، ليُزيح الستار عن جوانب أخرى من فصل دموي طالما حُجِبَ عن الضوء.
«لم يكن الاستعمار الفرنسي نهرا هادئا بل طوفانا هائجا»، بهذه العبارة الافتتاحية القاطعة، يرسم المؤلف معالم مشروعه التاريخي، الرافض للتلطيف أو التجميل، والمصمم على خوض غمار واحدة من أكثر الحقائق إيلاما في تاريخ الجزائر الحديث.رغم مرور نحو 80 سنة على مجازر ماي 1945، لا تزال فصولها الحقيقية مطموسة، بل ومغيبة عن السرديات الرسمية على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط. فالفرنسيون، بحسب الكاتب، يعرفون فظائع «أورادور سور غلان» التي أباد فيها النازيون 642 شخصا، لكنهم يجهلون أن عشرات المجازر من نفس الحجم وقعت في الجزائر بأيدي قوات فرنسية.
ففي القرى المنسية مثل بودرّاع بني ياجيس، فرجيوة، وادي شحم، سدراتة، بوشقوف، بوحيرة وغيرها، سُجلت مذابح بشعة ارتكبتها ميليشيات استعمارية مدعومة بالفيلق الأجنبي، تحت ستار «استعادة النظام العام» في أعقاب مظاهرات سلمية عبّرت عن رغبة شعب في الحرية والسلام، لا أكثر.
ويركز الكتاب على مدينة سطيف، حيث اندلعت أول شرارات المظاهرات في 8 ماي 1945، عندما رُفعت الراية الوطنية وسط مسيرة شعبية منظمة. الرواية الشهيرة عن سعال بوزيد باعتباره أول من حمل الراية، يراجعها بن يعيش، ويكشف أن الكشاف عيسى شرّاقة كان هو من أوكلت إليه هذه المهمة، وأن سعال بوزيد أصيب لاحقًا عند محاولته منع رجال الشرطة من مصادرة العلم.
وما حدث بعد ذلك كان أقرب إلى الإبادة: قوات مدججة بالسلاح، كمائن معدّة سلفا، إطلاق نار من الشرطة على المتظاهرين، تبريرات استخباراتية جاهزة... ثم تعتيم شامل.
ويؤكد المؤلف في كتابه المتضمن مقدمة للمؤرخ الفرنسي جيل مانسرون، أن روايات كثيرة استُخدمت لتضليل الرأي العام. من بين هذه الأكاذيب، اتهام حسان بلكيرد، قائد كشاف «فوج الحياة»، بالتحريض على المظاهرات، في حين كانت الوقائع تشير إلى أنه غادر سطيف قبل يوم من الأحداث بأمر من فرحات عباس نفسه.ويبرز المؤلف، الفرق الصارخ بين جنازات الضحايا الأوروبيين التي حضرها كبار المسؤولين، وبين الجثث الجزائرية التي حُرمت من القبور وحتى من الاعتراف. حيث فرض الاستعمار حظر تجول على المسلمين، ومنعهم من دفن موتاهم، وألقيت جثث كثيرة في مقابر جماعية منتشرة في جنان السبع، سيدي سعيد، أولاد بارا، عين السبت وغيرها.
وفي شهادة مؤلمة، يروي المؤلف تفاصيل عن، عيد أحمد من خراطة، وشيباني علي من نفس القرية، وبورماد عمار من بني عزيز، وغيرهم ممن أُعدموا أو ماتوا تحت التعذيب. لم تسجل وفياتهم في مناطقهم الأصلية بل في سطيف، بما يشير إلى عمليات نقل ممنهج لإخفاء آثار الجرائم.
ولأول مرة، يكشف الكتاب في إصداره الذي وزعت مادته على أكثر من 350 صفحة، شهادات من يتامى المجازر وناجين من المدارس والثكنات والسجون. يتحدث طورش محمد كمال عن معاناة تلاميذ «إوجين ألبرتيني»، فيما يروي ذباح هباش دور الميليشيا في اغتيال أفراد من أسرته. وتُدلِي زوجة حسان بلكيرد بشهادة توثق رواية مغايرة للحقيقة الرسمية.في الجانب الأوروبي من الشهادات، يذكر المؤلف القاضي «فايان»، والمدرس «بيغان»، والسكرتير الشيوعي «دينييه»، ممن قُتلوا في ظروف غامضة، ليوضح أن الحقيقة لا يمكن أن تكون أحادية، وأن القتل لم يميز دائما بين هويات الضحايا.
وقد خصص المؤلف حيزا مؤلما للحديث عن الجنود الجزائريين الذين قاتلوا في صفوف الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية. فعند عودتهم إلى أرض الوطن، وجدوا بيوتهم مدمرة وأهاليهم مقتولين، رغم أنهم ضحّوا من أجل «تحرير فرنسا». كانت مكافأتهم القمع والخذلان، لا التقدير أو الاعتراف.
تواطؤ السلطة الاستعمارية.. وصمت باريس
وقد حرص الباحث بن يعيش في مؤلفه على استعراض وثائق ومراسلات نادرة، من بينها تقارير القنصل البريطاني في الجزائر، وملفات سرية أمريكية، وشهادات صحفية مثل ما ورد على لسان الصحفي الأمريكي ‘’لاندريوم بولينغ’’ الذي تنقل في مناطق المجازر وعاين القرى المحروقة، مؤكّدا استخدام الطيران الحربي لقصف الأهالي.
وأشار إلى أن مارسيل ستوتزل، زوجة فرحات عباس، لم تسلم هي الأخرى من القمع، حيث سجنت ثم نُفيت إلى أقبو، رغم أنها لم ترتكب أي جرم سوى ارتباطها بشخص معارض. كما نقل المؤلف وثائق تؤكد تعذيب مثقفين فرنسيين والتنكيل بهم بسبب تضامنهم مع الجزائريين.وفي أحد المحاور الرئيسة في الكتاب وهو تفنيد رواية «التمرد»، يثبت بن يعيش أن المسيرة كانت منظمة، سلمية، وتحت رعاية جمعيات سياسية علنية، لكن السلطات، بعد أحداث أول ماي، تركت الأمور تتطور عمدا بهدف افتعال مبرر للقمع. ويستشهد برأي المؤرخ جان لويس بلانش الذي قال: «إنها كانت حركة دفاع ذاتي... عفوية... وليست تمردا».

ويوثق المؤلف خريطة مفصلة لمواقع المقابر الجماعية التي اكتُشف بعضها في السنوات الأخيرة (مثل اليشير عام 2013)، ويصف بدقة دور الميليشيات في التصفية الجسدية للناشطين والمشتبه بهم، بعيدا عن أعين القانون.
وبينما كانت فرنسا تعتذر لإسرائيل عن قوانين فيشي، ولليهود عن مذابح الهولوكوست، ظلت تتجاهل مجازرها في الجزائر، وهنا يتساءل بن يعيش في مرارة: «هل سنرى يومًا رئيسًا فرنسيا ينحني في قالمة أو خراطة، كما فعل الرئيس الألماني في أورادور؟».
في هذا الإصدار، أبرز الباحث بن يعيش أنه لا يدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، بل يدعو إلى سرد غير منحاز، تشاركي، يحترم الشهادات ويحمي ذاكرة الضحايا.، إنه – كما ذكر - لا يكتب من أجل الانتقام، بل من أجل العدالة، ومن أجل أن يفهم الجيل الجديد حجم التضحيات، وخطورة طمس الحقائق التاريخية.في ختام عمله، يؤكد كمال بن يعيش أن كتابه ليس تنديدا سياسويا، بل بحث موضوعي، يقوم على جمع أكثر من 20 عاما من الشهادات، والتحقيقات الميدانية، والوثائق المحظورة. عنوانه «واجب الحقيقة» (devoir de vérité)، وهو تعبير عن التزام أخلاقي تجاه الضحايا والتاريخ. وقال ‘’لقد جاء هذا المؤلف ( الدراسة) كثمرة نضج فكري وتجربة حياتية عميقة في مدينته سطيف، لا يستهدف بها الانتقام من أحد، بل إنصاف الذاكرة، وتحرير التاريخ من قيود التعتيم السياسي والمؤسساتي. وكما قال أحد شهود المجازر في الكتاب: «نحن لا نكره، لكننا لا ننسى».
تسريع الوعي الوطني وتهيئة الأرضية لانطلاق حرب التحرير
و يؤكد الباحث كمال بن يعيش، أن كتابه الذي نُشر لأول مرة سنة 2016، لم يكن مجرد توثيق لأحداث مأساوية، بل واجبا تاريخيا لكشف حقيقة طُمست طويلا تحت ركام الرواية الاستعمارية الفرنسية. وقال للنصر، بمناسبة صدور الطبعة الثانية من العمل شهر ماي 2025، إن المجازر التي ارتُكبت بالتزامن مع نهاية الحرب العالمية الثانية تمثل لحظة مفصلية في تاريخ الجزائر الحديث، وقد ساهمت في تسريع الوعي الوطني وتهيئة الأرضية لانطلاق حرب التحرير.وأوضح الباحث، أن التناقض الصارخ بين الاحتفال الأوروبي بنهاية النازية، والقتل الجماعي للجزائريين الذين خرجوا يطالبون بحقوقهم، يكشف ازدواجية الخطاب الاستعماري الذي رفع شعار التحرر في أوروبا ومارس القمع الدموي في مستعمراته.
ويضيف: «لم تكن مجازر سطيف وقالمة وخراطة مجرد انزلاق، بل نقطة تحوّل راديكالية أعادت تشكيل الوعي السياسي في الجزائر». وعن الطبعة الثانية من الكتاب، يؤكد بن يعيش أنها جاءت مُراجعة ومُعزَّزة بشهادات ووثائق جديدة، تعكس سنوات إضافية من البحث والتقصي، مضيفا أن «العمل يمثل أرشيفاً حيّا وشهادة حية ضد التعتيم والتزوير، ويهدف إلى إحياء ذاكرة الشهداء الذين حاول الاستعمار طمس أسمائهم ومقابرهم».
ورغم أهمية الحدث، تأسف المؤلف لندرة الدراسات التاريخية المعمقة حول المجازر، مرجعا ذلك إلى تواطؤ الصمت الرسمي في فرنسا، وإلى قصور في التوثيق بالجزائر كذلك. «الوقائع لم تُعد بالكامل، ولا تزال هناك أسئلة معلّقة حول المسؤوليات، عدد الضحايا، ومصير المختفين»، يقول بعيش، داعيا المؤرخين الجزائريين والفرنسيين إلى شجاعة أكبر في مواجهة هذا الفصل الدموي من التاريخ المشترك.وحول صدور الكتاب في فرنسا، عبّر بن يعيش عن ارتياحه لإتاحته للقارئ الفرنسي، قائلاً إن «الرأي العام في فرنسا، الذي طالما حُرم من معرفة الوجه الحقيقي للاستعمار، بدأ اليوم يطّلع على حقائق غائبة عن الكتب المدرسية والخطاب الرسمي»، مشيداً بدور المؤرخين أمثال جيل مانسرون والناشر الفرنسي لويس ويبر في دعم هذا المشروع.وفي تقييمه للموقف الفرنسي الرسمي، أشار إلى أن فرنسا بقيادة ماكرون لا تزال سجينة خطاب اليمين المتطرف والإسلاموفوبيا، ما يعرقل – حسبه – مسار المصالحة الحقيقية، ويضيف «صحيح أن هناك خطوات رمزية، لكنها تفتقر إلى الشجاعة السياسية والاعتراف الكامل»، مضيفا أن «بلدانا مثل بلجيكا وألمانيا تجرأت على الاعتراف بماضيها، بينما لا تزال فرنسا مترددة ومكبّلة».
وعن مشاريعه المستقبلية، أعلن كمال بعيش عن نية إصدار كتاب ثالث يتناول الجوانب المنسية من مجازر 8 ماي 1945، ويُعمّق البحث في وقائع الاغتصاب، والاختفاء القسري، والتعذيب، وشهادات عائلات الضحايا، في عمل يؤكد أنه «نتاج أكثر من عشرين سنة من البحث التاريخي الذي حظي بإشادة عدد من الأكاديميين الجزائريين والفرنسيين».

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com