حول النقيب بشير غانم، المدعو «حمدان تيغو» صالون بيته بالخروب بقسنطينة، إلى معرض لصور تؤرخ لتاريخ نضالي حافل امتد على مدار 33 سنة خدمة تحت لواء جيش التحرير الوطني، والجيش الوطني الشعبي، بدأه في 19 مارس 1955 برتبة جندي مجاهد وهو ابن 18 سنة.
ولد بجبال قالمة سنة 1937، وقد احتضنت غاباتها أولى سنوات كفاحه الذي استمر طويلا، لينتقل بعد الاستقلال إلى صفوف الجيش الوطني الشعبي الذي غادره سنة 1988 وهو يتقلد رتبة نقيب.
يعرض اليوم محطات من تاريخه كرجل ثورة وعسكر، في معرض للصور التي يرتبها بعناية على جدران بيته، ولا يزال يروي تفاصيلها و يردد قصصها على مسامع كل من يراها، رغم أن عمره ناهز90 سنة.
يتذكر زملاءه في النضال كل باسمه، ويعاند السنوات وما فعلته بجسده في محاولة للحفاظ على قصصهم حية، حيث يقول إن بينهم من استشهد إبان الحرب، ومنهم من تقلد رتبا سامية في الجيش الوطني الشعبي بعد الاستقلال، ومنهم من التحق برئاسة الجمهورية.
ويؤكد، بأن علاقاته بالأحياء منهم ما تزال قائمة حيث يتواصل معهم بين الحين والآخر، مشيرا إلى أنه أهدى نسخا من عديد الصور التي تجمعه بهم وبالشهداء أيضا للمتحف الوطني للمجاهد كما أرسل نسخا أخرى منها لمن تمكن من معرفة أماكن إقامتهم أو عناوين عائلتهم.
يقاوم السن و النسيان لينصف زملاءه
ترددت النصر، لأيام علي بيته لسماع شهادته عن النضال و الثورة وقد كان يقاوم السن و النسيان ليسترجع محطات من تاريخه كرجل ثوري، ونقيب في صفوف جيش الجزائر المستقلة.
ونظرا لما بلغه من العمر وضعف سمعه، كان يروي قصته على مسامعنا بصعوبة مع ذلك كان مصرا على أن ينقل شهاداته ليفي زملاءه الشهداء والمجاهدين الأحياء حقهم. بدأت علاقة حمدان تيغو مع الثورة، يوم اقتحم جيش الاستعمار مدرسة «الفتح» أين كان يدرس وذلك خلال أحداث 8 ماي 1945، في ذلك الوقت لم يتجاوز عمره الثامنة وقد اصيب في رأسه من الخلف بسبب رصاصة طائشة، وسال دمه وبقيت ذكرى ذلك اليوم تشهد على همجية الاستعمار.
لجأ حينها إلى دوار قريب من قالمة، وقامت إحدى النساء بعلاجه تقليديا ومكث عندها عدة أيام ريثما التأم الجرح، أوقد الظلم الذي تعرض له كره الاستعمار في قله، وبدأت روحه الثائرة تستفيق إلى أن التقى يوما رجلا يدعى الطاهر بن عميرة، في قرية «رأس العقبة» التي نزحت نحوها عائلته قادمة من قالمة، وقد كان والده حينها « سككيا».
بداية التجنيد في صفوف الثورة
كان بن عميرة، مطلوبا لدى فرنسا منذ 1945، وقد عرض عليه الالتحاق بجيش التحرير بعدما لمس نيته في ذلك، خصوصا وأنه كان مكلفا من الجبهة بتجنيد شباب قادر على خوض معركة التحرير.
قال لنا، إنه أخذه إلى المناضلين في منطقة «بوعربيد»، أين طلب منه في البداية القيام بعمل فدائي يدخل قائمة أعداء فرنسا، فلا يكون قادرا على الردة عن مبايعته للوطن بعدها، لكن الأمور سرعان ما أخذت مسارا مغايرا فقد انتهى الاتصال بينه وبين المجاهدين بالتحاقه مباشرة بالجبهة.
يقول :» ليلتها منحت « شملة « لألفها حول رأسي كطقس للإعلان عن الانضمام الرسمي لصفوف المناضلين، قد لقنت مباشرة بعض المبادئ حول حمل السلاح، وفك وتركيب قطع السلاح البسيطة المتوفرة، واستعمال بندقية صيد».
اللقاء مع زيغود يوسف وإطارات الشمال القسنطيني
كان النقيب بشير غانم، حارسا من حراس الاجتماع التاريخي بين القائد زيغود يوسف وإطارات الولاية الثانية للشمال القسنطيني، والذي دام عدة أيام، وتم خلاله التخطيط لهجمات 20 أوت، وتقسيم المهام دون الكشف عن التاريخ.
أخبرنا أن كلمة السر كانت « النصر / بان «. وقال إنه يتذكر بعض الوجوه والأسماء التي شاركت في الاجتماع على غرار صوت العرب، وسي عمار بن عودة.
شارك المجاهد كما أوضح، في الهجوم على حمام الدباغ مع أربعة من رفاقه بقيادة بوجمعة القسنطيني، ونائب رئيس الفوج خن العيد والسعيد سوداني، وعمار بوشامة المدعو الراهم لضخامة بدنه.
وقد انخرط في العملية عدد كبير من أبناء الشعب، بحسب ما تضمنه تقرير قدمته المجموعة للقيادة حين ذاك.
قصته مع خط موريس وفرانس فانون
واصل بشير غانم، كفاحه في منطقة عزابة وحصل هناك على لقب « حمبطوش الغزالي «، ثم تم تحويله إلى تونس لجلب السلاح سنة 1957 عبر خط موريس، في جهة الونزة.عين بعدها لمهمة دراسة هندسة العمليات في المنطقة سنة 1958 لمدة شهرين، ثم أصبح مدربا، ونجا من صاعقة أصابته بجروح وأحرقت شعره.
يتذكر الحادثة بألم، مشيرا إلى أنه فقد وعيه لعدة أيام وعندما استفاق وجد نفسه وسط مستشفى للأمراض العقلية وأعتقد أنه تم القبض عليه حيا، عالجه الدكتور فرانس فانون الذي منع عنه استعمال السلاح لمدة من الزمن.
بعد مغادرته للمشفى عاد إلى صوف جيش التحرير الوطني، وحول إلى الحدود الليبية بعد أن فتح بومدين جبهتي ليبيا ومالي لتشتيت قوة الاستعمار، خضع هناك لسنة من التدرب على سلاح المدفعية بقيادة اليامين زروال، الذي يقول إن علاقة صداقة تربطه به إلى اليوم.
وعند إعلان وقف القتال في 19 مارس، كان بشير غانم في المنطقة السادسة وكانت فرحته كبرى بالاستقلال ولقاء الأهل الذين انقطعت عنه أخبارهم لسنوات.
ذكريات حرب الرمال
سنة 1963 شارك في حرب الرمال دفاعا عن الوطن الذي تعرض لغدر الجار، وانتقل بعدها بين الوحدات والثكنات من الأغواط، إلى بليدة، وشرشال، ثم سطيف، ومن التلاغمة شارك في مناورة ضخمة للواء 8 حضرها الرئيس بومدين سنة 1973.
قال، إنه انتقل من التلاغمة إلى مصر عبر تونس وليبيا برا، وتنقل بين الوحدات، واقتحم خط برليف عبر الجسر الصناعي وشهد تبادلا للأسري الإسرائيليين على ضفاف قناة السويس.
وكل هذه الأحداث موثقة بالصور في صالون النقيب بشير غانم منذ أن كان جنديا في جيش التحرير إلى أن تقاعد من قسنطينة برتبة نقيب في الناحية العسكرية الخامسة، وتزين صدره أوسمة ويحمل شهادات عديدة تكرم نضاله.
ويرتبط المجاهد وجدانيا، بذكرى زملائه الشهداء وبجيش التحرير الوطني، والجيش الوطني الشعبي، الذي يدأب على حضور كل مناسباته وتلبية كل دعواته، أين يحرص على استرجاع قصص الأحداث الجسام التي عاشها جنديا في جيش التحرير، ثم ضابطا في صفوفه. ورغم كبر سنه الذي بلغ 90، ما يزال يحتفظ بالكثير من المعلومات، والأحداث، وأسماء الشهداء، والقيادات العليا التي خدم معها، يزوره بين الحين والآخر أساتذة من الجامعات وباحثون في التاريخ لتسجيل صفحات من ذاكرة الثورة والوطن. ص. رضوان