السبت 5 جويلية 2025 الموافق لـ 9 محرم 1447
Accueil Top Pub

الباحث في التاريخ مصطفى سعداوي للنصر: الاستعمــار الفرنسـي للجزائـر كان مبنيـا منذ بدايتـه على الإبـــادة


* فرنسا تعاني من شرخ داخلي يجعلها عاجزة عن الاعتراف بجرائم ماضيها * دور المؤرخ في بناء وعي وطني يجب أن يتوقف على تجاوز رد الفعل
في هذا الحوار نُصغي إلى شهادة وتحليل المؤرخ الجزائري الدكتور مصطفى سعداوي، أستاذ التاريخ بجامعة البويرة ومدير مخبر «التاريخ الوطني والذاكرة الجمعية»، حول موضوع يتعلق بجرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وبأزمة كتابة التاريخ الوطني، وموقع المؤرخ الجزائري اليوم.

حاوره: عبد الحكيم أسابع

يطرح الدكتور سعداوي رؤية نقدية متوازنة، تعري الجذور البنيوية للاستعمار الاستيطاني، وتكشف ازدواجية الخطاب الفرنسي، كما يتطرق إلى أزمة البحث التاريخي في الجزائر، والتحديات المنهجية والموضوعية التي تواجه المؤرخ في سعيه لبناء وعي وطني صادق يتجاوز عقدة الرد على «الآخر» إلى إنتاج معرفة مستقلة.
النصر: برأيكم ما الذي يجعل جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر فريدة في سياق التاريخ الاستعماري؟ ولماذا تعتبرون النموذج الفرنسي في الجزائر من خلال كتاباتكم وتصريحاتكم، حالة إبادة ممنهجة؟
- د.سعداوي: أنا أؤكد دائمًا أن الاستعمار الفرنسي للجزائر يختلف جذريا عن أشكال الاستعمار التي عرفتها دول إسلامية وعربية أخرى، فالجزائر كانت ضحية لموجتين من الاستعمار: الأولى تعود إلى ما يُعرف بالكشوف الجغرافية منذ أواخر القرن الخامس عشر، مع كريستوف كولومب سنة 1492، وهي في حقيقتها موجة استعمارية توسعية، أما الموجة الثانية، الحديثة، فقد انطلقت مع بدايات القرن التاسع عشر، وامتدت إلى غاية منتصف القرن العشرين.
والجزائر كانت أول بلد عربي وإسلامي يتعرض للاحتلال ضمن هذه الموجة، سنة 1830، وكانت أيضا من آخر البلدان التي استعادت استقلالها في مطلع الستينيات، وهذا يعني أن الجزائر خضعت لأطول فترة استعمارية في العالم العربي.
وما أود التأكيد عليه هو أن الطابع الاستعماري الفرنسي في الجزائر كان استيطانيا، وليس استغلاليا كما هو الحال في تونس أو المغرب أو بلاد الشام، الفرق جوهري بين النوعين، فالاستعمار الاستغلالي يأتي ليستنزف خيرات البلاد ثم يرحل، بينما الاستيطاني يأتي ليستقر ويستولي على الأرض، وليُحِل مستوطنين جدد مكان السكان الأصليين.
لذا، كان الاستعمار الفرنسي للجزائر مبنيا منذ بدايته على منطق الإبادة، لأن الأرض لم تكن خالية، بل كانت عامرة بسكانها الأصليين الذين عاشوا عليها منذ آلاف السنين.
وهنا واجه المشروع الاستيطاني عائقا يتمثل في وجود هؤلاء السكان، والحل الوحيد الذي اعتمده كان الإبادة الجسدية أولا، ثم الإبادة الثقافية.
وأقولها بوضوح، أن الاستعمار الاستيطاني، في جوهره، هو إبادة، وهذا ليس قولي فقط، بل تؤكده دراسات أكاديمية حتى في بلدان مثل أستراليا، فالإبادة لا تكون فقط بالقتل الجماعي، بل أيضًا من خلال محو الهوية ومحاولة إذابة الشعب الأصلي في ثقافة المستعمر، عبر اللغة، والدين، والعادات، والتعليم، وكل وسائل الهيمنة الناعمة والخشنة.
وفي الجزائر، منذ بداية الاحتلال، بدأت المجازر تتوالى: مجزرة البليدة، ثم مجزرة العوفية بوادي الحراش سنة 1832، ومجازر سطيف وقالمة وخراطة، وجرائم لا تُعد ولا تُحصى في منطقة القبائل، وفي الصحراء، وفي المدن بشمال البلاد، وفي مختلف المداشر والقرى في مختلف أنحاء الوطن التي تعرضت للإبادة، والتهجير، بل وحتى في باريس، سنة 1961، سُفكت دماء الجزائريين في قلب العاصمة الفرنسية، في سابقة تاريخية قلّ نظيرها، حيث نقل الاستعمار جرائمه من مستعمراته إلى ترابه الوطني.
الجزائر حالة فريدة في التخلص من استعمار استيطاني عبر ثورة شعبية مسلحة
والجزائر، برأيي، هي الحالة الوحيدة تقريبا في التاريخ الحديث التي استطاعت أن تتخلص من استعمار استيطاني عبر ثورة شعبية مسلحة، هذا ما لم تستطع تحقيقه شعوب أخرى في العالم الجديد. لذلك، فإن من يدرس الحالة الجزائرية لا يمكنه أن يفصل بينها وبين مفهوم الإبادة، لا من حيث الوقائع ولا من حيث التعريف الأكاديمي.
النصر: لماذا ترفض فرنسا رسميا الاعتراف الكامل بمسؤوليتها عن جرائم ماضيها الاستعماري في الجزائر برأيكم ؟
- د.سعداوي: فرنسا لا ترفض الاعتراف خوفًا من الجزائريين، بل لأنها تعاني من صراع داخلي عميق، إذ أن هناك ما يسمى بـ«حرب الذاكرات»، وهي في حقيقتها حرب فرنسية- فرنسية، بين ذاكرتين متناقضتين: ذاكرة فرنسا الثورية التي تتغنى بحقوق الإنسان، وذاكرة فرنسا الاستعمارية التي داست على تلك الحقوق.
هذا الصراع يُشبه قصة «الدكتور جيكل والسيد هايد»: الشخصية المزدوجة، التي تدّعي شيئًا وتمارس نقيضه، و الدولة الفرنسية لم تستطع إلى اليوم أن تمارس الحداد على فقدان الجزائر، لأنها بكل أسف لا تزال تعتبرها مستوطنة مفقودة، وتعيش على وهم استرجاعها، لذلك لا تقدر على الاعتراف الكامل بجرائمها، لأنه سيكون إدانة أخلاقية وتاريخية لها، وضربا لهويتها المتناقضة.
النصر: هل تعتقدون أن رفض الاعتراف الفرنسي له علاقة بالخوف من تبعات قانونية وتعويضات مالية؟
- د.سعداوي: لا أعتقد أن الخوف من التعويضات هو الدافع الأساسي ففرنسا تفاوضت في إفريقيا وقدّمت تعويضات في قضايا أخرى، والتعويض المالي يمكن دائما التفاهم بشأنه. فالأمر أعمق من ذلك، وهو مسألة معنوية حضارية، ففرنسا تعاني من أزمة هوية وشرخ داخلي، يجعلها عاجزة عن الاعتراف بما ارتكبته، و هي تخاف من الحقيقة، ومن مسؤولية الدولة، من انهيار صورة «فرنسا النبيلة» التي روجت لها.وحتى عندما تعترف ببعض الجرائم، فهي تفعل ذلك بصيغة الاعتراف المنكر: تُحمّل المسؤولية لأفراد متطرفين أو حالات شاذة، وتتملص من مسؤولية الدولة والمجتمع.
النصر: كيف تقيّمون واقع البحث التاريخي في الجزائر؟ هل هناك أزمة؟
- د.سعداوي: نعم، نعيش أزمة حقيقية في البحث التاريخي، صحيح أن هناك تطورًا كميا كبيرا، باعتبار أن عدد الأطروحات فاق الألفين، وهذا تطور لم تعرفه البلاد في العقود الأولى بعد الاستقلال، لكن من حيث النوعية، هناك تراجع مخيف، إذ أن الكثير من الرسائل تفتقد للمنهج، للإشكالية، للمصداقية، بل هناك سرقات علمية واضحة، والسبب في ذلك أن الدافع أصبح اجتماعيا، الهدف من الأطروحة هو الترقية، لا بناء المعرفة.
ولكن، رغم هذا الواقع المؤلم، ظهرت بعض الأعمال النوعية، وهناك مقاربات جديدة بدأنا نلمسها، مثل التاريخ البنيوي، والتاريخ من الأسفل، والتاريخ الشفوي، و هذا يعني أننا ربما في مرحلة انتقالية نحو تحوّل إيجابي على المدى المتوسط.
النصر: ما هي التحديات الأساسية التي تواجه المؤرخين الجزائريين في توثيق جرائم الاستعمار؟
- د.سعداوي: التحدي الأكبر هو أننا نكتب تاريخنا انطلاقا من أرشيف أنتجه المستعمر، والوثيقة الاستعمارية لا تعكس الحقيقة، بل تعكس رؤية الإدارة الاستعمارية، نظرتها للواقع، وتبريراتها.
كما أن هناك تحديا آخر لوجود جرائم لم توثق أبدا، مثل جرائم الاغتصاب والاعتداءات الجنسية، أو انتهاك الأعراف، والضحية لا تتكلم، كما أن الجلاد لا يُسجّل، أو قل لا يوثق هذه الجرائم الفظيعة، إذًا، نحن أمام نقاط عمياء في التاريخ، لا يكفي معها الاعتماد على الوثيقة.
ونحن في أشد الحاجة إلى مقاربات بديلة، تتعلق بالتاريخ الشفوي، والتاريخ من الأسفل، ودراسات مثل «دراسات التابع» التي نجح بها الهنود في تجاوز الأرشيف البريطاني.
نحن بحاجة إلى ابتكار أدوات جديدة في البحث التاريخي لتوثيق جرائم الاستعمار
النصر: إذا أنتم تقرون بأن ثمة جرائم مغيبة في الذاكرة الجماعية؟ فكيف يمكن توثيقها في غياب الشهود واعترافات الجلادين؟
- د.سعداوي: بكل تأكيد، هناك جرائم مغيبة لكنها حاضرة بقوة، حاضرة في اللاوعي، في الألم الصامت، في الشعور الجمعي، لكنها كما ذكرت، غير موثقة، لأنها لم تُسجّل في الأرشيف، ولأن الضحايا لم يستطيعوا البوح.
وأعطيك مثلا أن المرأة التي تعرضت للاغتصاب لا تتحدث، والمجتمع لا يُشجع على الاعتراف، وهذا يخلق فراغا في السردية الوطنية، ونحن بحاجة إلى ابتكار أدوات جديدة في البحث التاريخي لتوثيق هذا النوع من الجرائم.
النصر: هل مهمة المؤرخ تقتصر على التوثيق؟ أم تشمل مقاومة السرديات الاستعمارية؟
- د.سعداوي: المؤرخ لا يوثّق الماضي فقط، بل يتعامل مع الماضي بوصفه حاضرا، والتاريخ يتجدد مع كل جيل، لأن كل جيل لديه رؤية مختلفة وسقف معرفي مختلف، لذلك أشدد على وجوب إعادة كتابة التاريخ باستمرار.
لكن لا يجب أن نظل في حالة رد فعل دائم تجاه السرديات الفرنسية، وإن كان ذلك ضروريا في مرحلة التأسيس، لكنه أصبح عبئًا الآن، و يجب أن نخرج من أسر الكتابة ضد فرنسا، ونبدأ في الكتابة لأنفسنا، عن أنفسنا، بمنهج علمي مستقل.
النصر: ما الفرق بين التاريخ والذاكرة؟ وما دور المؤرخ تجاههما؟
- د.سعداوي: الفرق كبير، لأن التاريخ علم، والذاكرة وجدان، والتاريخ يُكتب بمنهج أكاديمي، يخضع للنقد والتحليل، ويرتكز على الحقيقة، أما الذاكرة فهي موجهة للجمهور العريض، وتحكمها عاطفة الوفاء للماضي.
والمؤرخ يجب أن يلتزم بالمنهج الأكاديمي، ويمكنه مخاطبة الوجدان أحيانا، لكن عمله الحقيقي هو البحث والفهم والنقد، وليس استدرار العاطفة أو كتابة خطب وجدانية.
النصر: ما دور المؤرخ في بناء الوعي الوطني؟
- د.سعداوي: دور المؤرخ محوري في بناء وعي وطني تاريخي متوازن، فالمؤرخ لا يبني الأوهام، بل يُسهم في ترسيخ الحقيقة، والحقيقة هي التي تفضح الاستعمار، وليس التهويل أو المبالغة.
وعندما يلتزم المؤرخ بالمنهج العلمي، يقدم خدمة حقيقية للمجتمع، أما إذا استسلم للإنشاء والشعارات، فإنه يُضعف مصداقية المعرفة التاريخية ويجعلها عرضة للشك.
النصر: كيف يمكن تأسيس مدرسة جزائرية مستقلة في كتابة التاريخ؟
- د.سعداوي: لن نؤسس مدرسة وطنية حقيقية إذا بقينا أسرى ردود الأفعال، يجب أن نخرج من منطق: «ماذا يقول الفرنسيون؟»، ونتوجه نحو سؤال: «ماذا نقول نحن؟».
لأن فرنسا ليست مرجعنا الوحيد، والأرشيف الفرنسي ليس أداة مقدسة، فالعالم أوسع من فرنسا، والاستوغرافيا العالمية أغنى من المدرسة الكولونيالية.
الحاصل، إذا أردنا أن ننتج مدرسة جزائرية للتاريخ، علينا أن نتحرر من هذه الدائرة المغلقة.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com