يُعد موسى مسعودي فدائيا شاهدا على ظلم ووحشية الاستعمار الفرنسي بمنطقة زانة أولاد سبع شمال ولاية باتنة، وهو الذي فقد شقيقيه عبد الله وبلقاسم شهيدين، وآخرين من أهل قريته، وشاءت الأقدار يقول عمي موسى صاحب 86 سنة، أن يعيش دهرا من الزمن بعد أن نجا خلال حقبة الاستعمار مرات من الموت، وكان عمي موسى قد سُر باستضافتنا في بيت نجله بقرية زانة أولاد سبع ليسرد لنا كيف ناهض سكان قريته الاستعمار، وما عاشوه من همجية تحت وطأته، وكيف له أن نجا عديد المرات وهو الذي يعد شاهدا على جرائم بشعة منها مجزرة غار الحمام التي قتلت خلالها فرنسا 13 معتقلا بطريقة بشعة داخل كهف حجري انهار على رؤوس الضحايا، وقد ظل عمي موسى يقوم بدوره فدائيا متخفيا دون أن يتفطن الاستعمار لأمره منذ اندلاع الثورة إلى غاية نيل الاستقلال.
أجرى اللقاء: يـاسين عـبوبو
زانة أولاد سبع المنطقة الأثرية والثورية
فرح عمي موسى مسعودي بتنقلنا إليه بقريته زانة أولاد سبع لاستذكار بطولات تاريخية للمنطقة وأبنائها إبان الحقبة الاستعمارية، وقبل الوصول لوجهتنا كان السفر على مسافة تقدر بحوالي 40 كلم ممتعا من باتنة إلى قرية زانة أولاد سبع، التي تروي فصولا من التاريخ فالمنطقة تضم آثارا من الحقبة النوميدية، وعُرفت خلال الحقبة الرومانية بتسمية ديانا فيترا نوروم، وأقام البيزنطيون على أنقاض تلك الاثار بالمنطقة أيضا، وخلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية اشتعل فتيل الثورة التحريرية بزانة أولاد سبع على غرار باقي مناطق الأوراس، حيث استبسل أهلها وسقط منهم شهداء في سبيل الحرية بينهم شقيقا الفدائي عمي موسى مسعودي.
وبوصولنا إلى زانة أولاد سبع رفقة الصديق حسان مسعودي ابن المنطقة وقريب الفدائي عمي موسى، التقينا أيضا عمي بوزيد وهو ابن شهيد، ويعد عمي بوزيد البالغ من العمر 72 سنة ممن استبسلوا خلال حقبة العشرية السوداء، وتصدَوا للإرهاب وأبانوا عن التضحية للتشبث بأرضهم مهما كانت الظروف آنذاك سيرا على خطى الشهداء والمجاهدين الذين حاربوا الاستعمار الفرنسي، فكان عمي بوزيد أول من تقدم لحمل السلاح خلال العشرية السوداء للذود عن القرية، رافضا التهجير والمغادرة أو النزوح إلى المدن والتجمعات السكنية الحضرية الكبرى، وقد ظل على ذلك العهد، وقال عمي بوزيد بأن والده سقط شهيدا خلال الثورة التحريرية فداء لأرضه، فكيف أن لا يسير على نهج والده بالتضحية من أجل الوطن.
يتذكر جيدا عمي موسى مسعودي، اندلاع الثورة وما تبعها من أحداث عاشها بقريته زانة أولاد سبع، وقال بأنه لن ينسى تلك المشاهد التي ثارت فيها ثائرة الاستعمار الفرنسي الذي خرج بقواته مدججا بمختلف الأسلحة من دبابات وطائرات، حيث تسارعت الأحداث حينها بعد أن انتشر خبر فرار معتقلين جزائريين من منطقة التلاغمة، وقد بلغوا قريتهم بعد توجيههم من مناضلين من عرش السحاري بمنطقة ثنية السدرة، ليتولى سي العياشي ابن قريته مواصلة دلهم على منفذ الفرار من قبضة قوات الاستعمار نحو الجبال.
وقال عمي موسى، بأن الأحداث راحت تتوالى في أعقاب اندلاع الثورة بوقوع مواجهات بين أفراد جيش التحرير الوطني وقوات العدو المستعمر، أبرزها تلك التي وقعت بعد اجتماع مناضلين ومجاهدين بأولاد بوقنة، حيث راحت قوات المستعمر تحاصر المنطقة واستخدمت الأسلحة الثقيلة والرشاشات وسقط خلالها العديد من الشهداء بمنطقة تيطاوين، مشيرا إلى إقامة معلم تاريخي بعد الاستقلال لتخليد شهداء تلك المعركة وعددهم 20 شهيدا، وأضاف عمي موسى، أن انكشاف أمر المجاهدين خلال معركة تيطاوين أو غيرها كان على الأرجح دوما خلفه وشاية، الأمر الذي جعله ينشط في سرية تامة حتى لا يتم التفطن لأمره، خاصة وأن من الفدائيين من اغتيلوا رميا بالرصاص بعد التفطن لأمرهم.
كان استحضار التاريخ الثوري مع عمي موسى شيقا من جهة ومؤسفا من جهة أخرى، فمحدثنا ظلت بذاكرته تلك الحقبة راسخة لما تحمله من مآسي، وهو الذي نجا من الموت عديد المرات ودون أن تتفطن سلطات الاستعمار لأمره، خاصة وأن مسكنهم العائلي كان مركز تموين للمجاهدين، وأبرز محدثنا أن الوشاية عادة ما تكون وراء الإيقاع بالمبحوث عنهم من طرف الاستعمار مستدلا بعلم قوات الاستعمار بأسماء مجاهدين بالقرى والمداشر، حيث أوقف واعتقل بمعتقل منطقة الطاقة بسريانة رفقة قريبه لتطابق أسمائهما مع اخرين من المجاهدين.
ويروي عمي موسى، أنه ظل بالمعتقل لثمانية أيام لتطابق اسمه مع مجاهد في جيش التحرير من قريته، ولم يطلق سراحه إلا بعد إتمام التحقيقات والتأكد من هويته التي لا تتطابق مع المبحوث عنه، بعد مقارنة بطاقات هوية صادرة من عين جاسر، وكان نفس الأمر مع رفيقه مسعودي علي، وفي ذات السياق أكد عمي موسى أن فرنسا أوقفت وعذبت وقتلت عديد الفدائيين الذين على صلة بالمجاهدين.
عميل مزدوج ساعد المجاهدين وهاجر إلى فرنسا
يتذكر عمي موسى مسعودي حادثة بطلها أحد سكان المنطقة ممن كانوا يتقنون الحديث بالفرنسية وعُرف عنه وسط أهل المنطقة، أنه من عملاء الاستعمار الفرنسي أو القومية كما يُطلق عليهم، لكن واقع الحال لم يكن كذلك بعد أن تبين أنه يساعد المجاهدين ولا يفشي أسرار الثورة، حيث أكد عمي موسى بأن ذلك الشخص الذي كان يعتقد الجميع بأنه يعمل لصالح فرنسا، كان في واقع الأمر، يتعامل بازدواجية خاصة وأنه تفطن لأمر فدائيين ومراكز تموين المجاهدين دون أن يفشي ذلك للسلطات الاستعمارية وحدث ذات مرة يضيف عمي موسى، أن لاحظ العميل ذبح قطعان ماشية، وكان متأكدا بأن ذلك خصص للمجاهدين الذين ينزلون بالديار التي هي مراكز سرية، وقد حذرهم من النتائج الوخيمة عليهم إن تفطنت لهم فرنسا دون أن يفشي بذلك.
وقال عمي موسى، بأن مواقف ذلك العميل تؤكد بأنه لا ينوي السوء بأهل قريته وبالمجاهدين بل على العكس كان يقدم المساعدات في الخفاء ثم خشي من تفطن أمر السلطات الفرنسية له، خاصة بعد أن تعرض بدوره للوشاية ما جعله يغير معاملته تجاه الشخص الذي حاول كشف أمره وانتقم منه، وأضاف عمي موسى بأنهم علموا فيما بعد بأن العميل المدعو الحاج أومحمود غادر وهاجر إلى فرنسا واستقر هناك.
وأكد عمي موسى بأن دوره كفدائي، كان يستدعي العمل بسرية تامة وإلا فإن مصيره المحتوم هو التصفية والقضاء عليه من طرف فرنسا الاستعمارية، التي قضت على فدائيين من قريته رميا بالرصاص، ويروي بأن السلطات الاستعمارية كانت قد تفطنت لأمر أربعة فدائيين قتلتهم رميا بالرصاص، ويتعلق الأمر بأحمد جرادي والسعيد بن صديق ومسعود أوموسى والسعيد أولمسعود، مشيرا إلى أن أول مركز للمجاهدين احتضنته ديار سي أحمد جرادي.
وفيما تعلق بمراكز المجاهدين التي هي عبارة عن أماكن سرية بالقرية تمثل نقاط عبور لاستقبال المجاهدين للراحة والأكل، فأوضح عمي موسى بأن بداية اختيارها وتنصيبها كان من طرف المجاهد حسين عبيد القادم من شعبة أولاد شليح، ومن بينها ديار عائلته التي كانت منطلقا له لنقل المؤونة وكذا الرسائل السرية لجيش التحرير، مشيرا لتنقله وتواصله مع المجاهدين من منطقة تاجنانت ببلدية وادي الماء إلى التلاغمة وعين جاسر وصولا إلى تين زواغ.
فرنسا قتلت 13 معتقلا بتفجير غار الحمام على رؤوسهم
عاش وعايش الفدائي عمي موسى وهو يستحضر ذكريات الثورة التحريرية بمسقط رأسه أحداثا كثيرة تعبر عن وحشية الاستعمار الفرنسي وفي الوقت نفسه تعبر عن بطولة الشعب في مناهضته للاستعمار، ومن بين تلك الأحداث جريمة اقتياد القوات الفرنسية لمعتقلين أتت بهم من مروانة –يقول عمي موسى- حيث تم القضاء عليهم دفعة واحدة فيما بات يعرف لاحقا بتفجير غار الحمام، وهي الحادثة التي أكد مرافقنا ابن المنطقة حسان مسعودي بأنها لم تأخذ حقها من البحث والتوثيق والتأريخ لها لإدانة إحدى جرائم فرنسا، ولم يستبعد محدثنا أن يكون الضحايا قد أبيدوا بغاز النابالم، خاصة وأن فرنسا كانت قد استعملت هذا الغاز المحظور في عدة تفجيرات بمناطق الأوراس، على غرار ما حدث في غار أوشطوح بمنطقة بتارشيوين.وقال مرافقنا الذي يشتغل معلما وهو عضو في المجلس البلدي لبلدية الزانة البيضاء، بأن الجريمة بحاجة لتوثيق حفاظا على الذاكرة مشيرا لغياب معلم بالموقع يوثق لها رغم أن الجريمة التي ارتكبها المستعمر معروفة لدى سكان المنطقة، وبالعودة لتاريخ الجريمة التي وقعت سنة 1958 يتذكر عمي موسى جيدا هول الانفجار بالغار الذي هو عبارة عن كهف حجري يقع بالمكان المسمى دخلة عمار على بعد حوالي 06 كيلومترات عن زانة أولاد سبع، وأوضح عمي موسى بأن الغار لطالما كان يشكل ملجأ للفدائيين للاختباء ولنقل الجرحى للعلاج.
وأضاف الفدائي عمي موسى مسعودي بأن يوم الحادثة حشدت فرنسا قوات كبيرة كانت متوجهة باتجاه الغار وقد فرَ كل من كان قريبا بالمكان، قبل أن يفزعوا لهول دوي انفجار مروع ودخان كثيف متصاعد، وقد علموا بأمر المعتقلين الذين اقتيدوا للغار، وقال بأنهم ليسوا من المنطقة وإنما أتوا بهم من مروانة، وبعد الانفجار ومغادرة القوات الفرنسية هرع إلى هناك وقال بأن الغار تم نسفه بعد أن سقطت حجارته ولاحظ بين الصخور لباسا للضحايا عبارة عن برنوس بقي عالقا وسط ركام الحجارة مؤكدا استحالة العثور أو استخراج الجثامين.
استشهد شقيقاه ونجا من رصاص طائرة لاحقته في الجبل
وناهيك عن جريمة غار الحمام، ظل عمي موسى يحفظ عديد الأحداث الراسخة في ذاكرته، وكان في كل مرة يروي فيها لنا ما عاشه إلا ويبتسم تارة ويضحك تارة أخرى كيف أنه نجا من الموت عديد المرات خاصة وأن السلطات الاستعمارية لم تتردد في تصفية كل من تتفطن لضلوعه في تموين المجاهدين، ومن بين الأحداث المؤسفة التي عاشها عمي موسى هي فقدانه لشقيقيه عبد الله وبلقاسم اللذين استشهدا، ويروي أنهما سقطا في اشتباكات إلى جانب ثلاثة شهداء اخرين بعد أن كانوا جميعهم مع بعض، وقال بأن وشاية وراء اكتشاف أمرهم ما جعل قوات الاستعمار الفرنسي تحاصر مكان تواجدهم بمنطقة شط الصابون ليس ببعيد عن ديار زانة أولاد سبع، حيث سقط خمستهم شهداء بعد محاصرتهم.
وقال عمي موسى بأن قوات الاستعمار أخضعته للاستجواب والاستنطاق حول شقيقيه قبل حادثة استشهادهما دون أن تنل منه بعد أن أنكر علمه بنشاطهما، وأضاف بأن قوات الاستعمار أخرجته حينها من السكن بعد منتصف الليل وقيدته، وكانت قد ألقت أيضا القبض على الفدائي حشاش الصالح بعد اكتشاف أمره بتموين المجاهدين، حيث قامت بتعذيبه قبل قتله، وأكد عمي موسى بأن فرنسا لم تكن تتساهل مع من تكتشف صلته بالمجاهدين، حيث ألقت أيضا القبض على المدعو مسعودي إبراهيم الذي تعرض لأشد أنواع التعذيب باستخدام الكهرباء والحبس وحرق دياره في منطقة زربقة.
وعلى الرغم من كل أشكال المعاناة والتعذيب ومختلف الأساليب الوحشية التي لجأت إليها السلطات الاستعمارية إلا أن ذلك لم يحبط معنويات الفدائيين –مثلما أكده عمي موسى- بل زادهم قوة على استمرار دعم الثورة، وكان على اتصال بعديد القادة وذكر منهم محمد الصالح يحياوي ومحمد الصالح بن عباس وسي شنوف وسي بومعراف وزيور والصالح السوفي، مؤكدا استمراه في تطبيق تعليماتهم بتوفير المؤونة الغذائية وتحضير الأكل مشيرا لمساهمة نساء القرية، ويتذكر مرة قبل استشهاد شقيقه عبد الله أن الأخير نهى المجاهدين عن الحضور إلى دياره في النهار والتزام السرية حتى لا تنتقم قوات الاستعمار من السكان. ويتذكر عمي موسى، أن المجاهدين كانوا يبلون من جهتهم البلاء الحسن في عديد المعارك انتقاما من همجية المستعمر ضد المدنيين العزل، ومن بين تلك المعارك إحداها التي وقعت بالقرب من بئر الشهداء، ويتذكر حينها أن صدى تلك المعركة بلغ كل المناطق المجاورة بعد أن تم نصب كمين وحرق شاحنة لقوات المستعمر، وقال عمي موسى بأن المجموعة التي نفذت العملية كانت بقيادة المجاهد حسين عبيد الذي توجه بعد نجاح الكمين نحو ديارهم بالزانة أولاد سبع، ويتذكر حينها مقولة المجاهد بعد أن قال له عمي موسى «راكم خليتوها يا سي حسين»، فردَ عليه الأخير بالقول» لي مات مات شهيد، ولي تبقى حي يبقى سعيد» ليطلب منه بعدها إحضار العشاء.
ومن بين الحوادث التي قال عمي موسى بأنه لن ينساها، يوم نجا من استهداف طائرة عسكرية فرنسية كانت قد حاصرته رميا بالرصاص عندما كان يمشي راجلا لوحده ببهائمه بمنطقة بوزعباطن، وقال بأنه آنذاك توجه لجلب الحطب ولم يكن يتوقع أن طائرة جوية ستتعقبه، مضيفا بأنه لحسن حظه ولأن قدر موته لم يحن بعد، استطاع بردة فعله أن يختبئ في جحر بينما ظلت الطائرة تطلق رصاصا قتلت به ثلاثة من بهائمه وأصيب رابع بكسور، وهو الذي لم يكن يظن بأنه سيخرج ناجيا على قيد الحياة.