كتبت منطقة تفلفال وما جاورها ببلدية غسيرة في عمق الأوراس جنوب ولاية باتنة، تاريخا بطوليا بتضحيات أهلها خلال الثورة التحريرية، وجعلت السلطات الاستعمارية التي عجزت عن التصدي للثورة، تعمد إلى عزل النساء زوجات المجاهدين بالمنطقة في ديار حولتها إلى معتقلات، منذ 1955 إلى غاية الاستقلال، حيث أكد لنا في زيارتنا لقرية تفلفال الأستاذ بلقاسم عماري وهو ابن المنطقة وشاهد على أحداث خلال الثورة، بأن معتقلات تفلفال الوحيدة من نوعها التي انتهج من خلالها الاستعمار الفرنسي بالجزائر، عزل زوجات المجاهدين لإحباط معنوياتهم بغية إخماد الثورة التحريرية التي اندلعت بالأوراس.
03 مراكز اعتقال لقطع اتصال نساء تفلفال بأزواجهن المجاهدين
تضم قرية تفلفال التي تنقلت إليها النصر، معالم لاتزال شاهدة على أحداث عرفتها المنطقة إبان الثورة التحريرية، ولايزال أهل القرية ممن عايشوا تلك الأحداث يذكرونها جيدا، ومن بينهم الأستاذ بلقاسم عماري وهو من مواليد تفلفال سنة 1944 أحيل على التقاعد سنة 2002 من سلك التعليم، حيث كان مفتشا في مادة اللغة والأدب العربي للطور المتوسط، ويعد الأستاذ بلقاسم عماري من أعيان القرية الذين يجمعون ذات البين ويفصلون في النزاعات، وقد كان لنا معه بعد أن رافقنا في جولتنا بقريته حديث شيق حول التاريخ الثوري للمنطقة، فكان بمثابة الدليل والشاهد على أحداث تاريخية، منها ما يعرف بمعتقلات تفلفال، أين زُجت زوجات المجاهدين بالمنطقة في مراكز للتأثير على معنويات المجاهدين المرابطين بجبال الأوراس لطرد الاستعمار الفرنسي.
وناهيك عن الرصيد الثوري المتخم بالتضحيات لتفلفال، فإن الزائر للمنطقة سينبهر بالمناظر الطبيعية الخلابة لهذه القرية التي تبعد بنحو 80 كلم عن عاصمة الولاية باتنة جنوبا، وكذا نفس المسافة عن مقر ولاية بسكرة، حيث تعد القرية المترامية على ضفاف وادي إغزر أملال بوابة للصحراء، ما جعل سحر طبيعتها يجمع بين التل الجبلي والصحراوي، حيث تنتشر حولها وفي أزقتها بساتين الأشجار المثمرة وتطل عالية أشجار النخيل الباسقة وتشد الانتباه سكناتها الطينية التقليدية المتناسقة مع الطبيعة، وعلى جانبي الطريق الوطني الذي يقطع القرية تتواجد معالم ثورية يسرد أهلها ذاكرتها التي يفتخرون بها، والموقع الجغرافي الوسطي للقرية بين التل والصحراء جعل أبناء من المنطقة يتوزعون في الجهاد إبان الثورة بين الولايتين التاريخيتين الأولى والسادسة.
وتقترن باسم تفلفال المعتقلات التي أقامتها السلطات الاستعمارية سنة 1955 لأسر النساء زوجات المجاهدين، وهي المعتقلات التي وقفنا عليها خلال تنقلنا للقرية، حيث أصبحت هذه المراكز، أطلالا لكن ذاكرة الأستاذ بلقاسم عماري تحفظ أسرارها، بعدما كان قد عايش تلك اللحظات، التي كانت تعتقل فيها النساء لعزلهن عن أزواجهم المجاهدين.
وأوضح مرافقنا، بأن عدد مراكز المعتقلات 03، وأشار إلى أن المستعمر عمد إلى إقامة أول معتقل سنة 1955 داخل اصطبل ضيق تعود ملكيته للمجاهد حابة صالح، قبل أن تحول المركز إلى مكان اخر هو حوش سي الهادي، الذي تنقلنا إليه أيضا والذي تحول إلى أطلال من الحجارة دون سقف وبعدها توجهنا للمركز الثالث وهو ديار أولاد صالح، وبمرورنا بمقر البلدية القديم لاحظنا جدارية كبيرة تم البصم عليها تطوعيا، بحيث تضم صور نساء من القرية ممن كن معتقلات على غرار حجيلي مبروكة، وجمعة سليمان وبن يدير وريدة وبرسولي مباركة وأسماء أخريات.
وأكد الأستاذ بلقاسم عماري، بأن السلطات الاستعمارية الفرنسية، انتهجت أساليبا وخططا عديدة لإخماد الثورة بالأوراس، من ضمنها عزل نساء في مراكز اعتقال بتفلفال بهدف ضرب وإضعاف معنويات أزواجهم المجاهدين، موضحا بأن الأسوب كان فريدا ينحصر على منطقة تفلفال، وقال بأن الاعتقال يقتصر على الفترة الليلية فقط في حين يطلق سراح النسوة نهارا للانتشار، خارجا لقضاء حوائجهن غير أنهن يبقين تحت المراقبة وفي الليل تتم المناداة عليهن كل واحدة باسمها للعودة إلى المعتقل تحت الحراسة، ويروي أنه حدث ذات مرة أن تمت الوشاية بعدم رجوع بعض النساء لكن تفطن بعض المعتقلات حال دون اكتشاف أمرهن.
وأكد الأستاذ عماري بأن الاستعمار أصرَ على سياسة اعتقال زوجات المجاهدين منذ سنة 1955 إلى غاية الاستقلال، حيث تم في البداية إرغام النسوة ومعهن أطفالهن على المبيت في معتقل عبارة عن اصطبل، قبل أن يحولن إلى ديار حوش سي الهادي الذي شهد حادثة تفجير راح ضحيتها بعض النسوة، وقال بأن الحادثة التي كانت وراءها فرنسا جعلتها تواصل في سياستها، بتحويل النساء نحو مركز اخر للاعتقال يتمثل في ديار أولاد صالح.
إعدام 04 شهداء ومجاهدون يردون بقتل ضابط فرنسي
اعتبر الأستاذ عماري بلقاسم، أن النشاط الثوري المكثف الذي عرفته منطقة تفلفال وما جاورها، وراء تشديد السلطات الاستعمارية الخناق على الثورة بكل الأساليب المتاحة دون مراعاة للإنسانية، على غرار اعتقال زوجات المجاهدين، ويتذكر محدثنا اندلاع الثورة في الفاتح نوفمبر 1954 بانطلاق أولى الرصاصات بمضيق تاغيت، الذي لا يبعد سوى ببضع كيلومترات عن قريته.
وأضاف الأستاذ بأنه في تلك الفترة، كان فيها طفلا يتجاوز عمره 10 سنوات وكان يرعى الماعز والجديان رفقة أترابه، إلا أنه يتذكر أن المستعمر حشد قواته وكانت تصلهم الأنباء عن المعارك التي أطلق المجاهدون العنان لها بمناطق متفرقة بالأوراس، وقال بأن قريته على غرار مختلف القرى، انطلقت منها مجموعات من المجاهدين انضوى بعضهم تحت قيادة المناضل في الحركة الوطنية بلقاسم محمد الشريف، الذي سرعان ما ألقي عليه القبض وسجن قبل أن يستأنف الجهاد بعد خروجه من السجن، ويتذكر الأستاذ عماري أن فرنسا استعانت بفرقة من المجندين المتطوعين من المغرب، والتي نزلت بالمنطقة وتعرف بالمراركة لكنها سرعان ما غادرت حسب محدثنا.
وقال الأستاذ عماري، بأن أحداث بطش متسلسلة توالت عرفتها المنطقة في أعقاب الثورة من طرف الاستعمار، ناهيك عن حادثة تفجير معتقل النساء بديار سي الهادي وهو المكان الذي وقفنا عليه، حيث أصبح عبارة عن أطلال من الحجارة دون سقف وبجانبه لوحة لتخليد مآثر الثورة دُون عليها من طرف جمعية رواد الثورة بأن المكان التاريخي المسمى تفلفال « أقام الاستعمار الفرنسي فيه مركز التعذيب والقتل الجماعي على يد ضابط الشؤون الأهلية المدعو فرانكو، الذي مارس أنواعا من التعذيب بالكهرباء والماء الساخن، وقتل المواطنين ليلا رميا بالرصاص ودفنهم في مقابر جماعية في شعبة أولاد سي عمر».
وبعد معتقل ديار سي الهادي، توجهنا رفقة الأستاذ عماري إلى الشعبة التي عرفت استشهاد أربعة مناضلين من القرية تم إعدامهم رميا بالرصاص، حيث أنجزت لوحة لتخليد هؤلاء الشهداء الذين أعدموا رميا بالرصاص بتاريخ العاشر جويلية من سنة 1955، وهم برسولي الصديق، وبلقاسمي الجودي، وبن رحمون المداني وبن رحمون محمد وبجوار المكان شيد معلم تاريخي، كما شيدت بجواره ملحقة الفرع الإداري البلدي لقرية تفلفال والتي أطلق عليها تسمية المجاهد المتوفي عماري مزيان.وليس ببعيد عن موقع إعدام أربعة من المناضلين من سكان تفلفال، تنقلنا إلى المدرسة الابتدائية التي تحمل اسم الشهيد بلقاسمي محمد بن مسعود والتي قال محدثنا بأنها في الحقبة الاستعمارية كانت ساحة لرفع العلم الفرنسي، وقد شهدت هجوما للمجاهدين في أكتوبر 1955 كرد فعل وانتقام لإعدام المناضلين العزل، وتمكنوا حينها من قتل الضابط الفرنسي المستهدف، وأكد الأستاذ عماري بأن كل أساليب المستعمر لم تحد من إرادة المجاهدين والشعب في مواصلة إذكاء نار الثورة. وفي جولتنا بقرية تفلفال، وقفنا على معالم عبارة عن مراكز للحراسة وأوضح مرافقنا الأستاذ عماري بأنها تنقسم إلى شقين، بحيث أن جهة تابعة لقوات الاستعمار وجهة للقايد العميل الفرنسي، وفي ذات السياق أشار لتعاون بعض ممن احتسبوا عملاء لفرنسا مع المجاهدين، وقال بأن الكثير يعلم بتعاون أشخاص يفترض أنهم عملاء كانت توكل لهم مهمة الحراسة بالمركز الذي يطل على القرية، لكنهم كانوا يقومون بإشارات من أعلى المراكز حتى يتسنى للفدائيين أو المجاهدين بالتحرك خاصة لأخذ المؤونة، مشيرا إلى أن المركز تحول حاليا إلى خزان للمياه.
وأشار محدثنا إلى أن قوات المستعمر الفرنسي المتمركزة بتفلفال، عمدت في أعقاب الثورة إلى تغيير تموقعها خوفا من هجمات المجاهدين، بعد أن هجرت وأحرقت ديار السكان الواقعة بالجهة العلوية، وألزمت السكان المهجرين بالإقامة على جانب الوادي الكبير إغزر أملال الذي يقطع القرية، وذلك حتى تستطيع مراقبة تحركات سكان القرية. وفي جولتنا كان كل ركن من القرية يروي أحداثا تاريخية يسردها لنا ابن المنطقة الأستاذ عماري بلقاسم، حيث في طريق عودتنا أشار إلى لافتة تخلد استشهاد فدائيين اثنين بتاريخ الرابع أوت من سنة 1956، وهما خذري أحمد بن علي ووزاني الصادق بن السبتي، وأشار محدثنا بموقع استشهادهما لتنفيذهما عملية قتل قبل أن تحاصرهما القوات الفرنسية، وبالقرب من مدرسة الشهيد بلقاسمي محمد أشار لوقوع احتجاج ومظاهرة من طرف السكان سنة 1959 احتجاجا على محاولة اعتقال نساء وتوجيههن للمعتقل، وقال بأنه يتذكر جيدا حينها عندما تصدى أحد الشباب لجندي فرنسي بإمساك عصاه، مضيفا بأن الشاب كان قوي البنية يدعى مسعود معمر ينحدر من قرية أولاد إيدير.
ربورتاج: يـاسيـن عــبوبو